Skip to main content
بين إريك زمور وقيس سعيّد
راتب شعبو

ليس قليلاً ما يجمع بين صعود قيس سعيّد في تونس وصعود إريك زمور في فرنسا، كلاهما قادم من خارج الأحزاب والوسط السياسي، وكل منهما حاز على حضور عام من خلال برامج التلفزيون الحوارية. الأول أستاذ في القانون، حتى وقت إدخاله إلى السياسة من الباب الواسع، وهو معادٍ أو كاره للأحزاب السياسية. والثاني صحافي وكاتب ذو أفق سياسي محدود بأفكار من طبيعةٍ عنصرية، تطوّعت فئة من الشباب الفرنسيين وبنوك ووسائل إعلام للنشاط من أجله، وترويجه ودفعه إلى الترشّح لانتخابات الرئاسة، على الطريقة نفسها التي تطوّعت فيها فئة من التونسيين الشباب لدعم ترشيح قيس سعيّد وتمويله وإيصاله إلى الرئاسة. وكما أظهر سعيّد "تعفّفاً" وزهداً بالمنصب، يبدو زمور وكأن المنصب يسعى إليه وينتظر منه إعلان الترشّح، وهو ما لم يفعله بعد. على أن ثمّة ما يفرق بين "الظاهرتين" من الناحية الشخصية، ففي حين يبدو سعيّد شخصية أخلاقية أو "شريفة" (هذه ليست صفة ضامنة في السياسة على كل حال) ولا تهوى الجدال، ومن طينة قريبة للناس ومتعاطفة معهم، يبدو زمور شخصية مناقضة. مع ملاحظة أنهما يجتمعان على تقسيم الناس إلى أشرار وخيّرين، كل حسب معاييره الخاصة. إذا كان محدّد الشر عند سعيّد سياسيا يتعلق بالولاء، فإن محدّد الشر عند زمور ثقافي يتعلق بمفهوم "مغلق" عن الحضارة الفرنسية.

لهذا التشابه حدود يفرضها ثبات النظام الديمقراطي في فرنسا وضعفه في تونس. إذا كان النظام السياسي الحديث العهد في تونس قد سمح بوصول مرشّح غير واضح المعالم السياسية إلى الرئاسة، أملاً بمخلّص فرد، وسمح لهذا المخلّص بالانقلاب على السياق الديمقراطي، فالراجح أن طريق زمور إلى قصر الإليزيه ليس سالكاً، غير أنه، مع ذلك، استطاع بصعوده اللافت (استطلاعات الرأي تعطيه 17% متجاوزاً الجميع باستثناء الرئيس الحالي ماكرون 23%) أن يحرف المشهد السياسي الفرنسي إلى اليمين. بات القلق والمخاوف المرضية التي يثيرها ويجادل فيها ويجذب جمهوراً محبطاً، مثل موضوع "الاستبدال الكبير" الذي يقول إن هناك شعوباً أخرى (مسلمة غالباً) سوف تحلّ، مع الوقت، محل الشعب الفرنسي "الأصلي"، وموضوع الهجرة واللاجئين، من المواضيع المفضّلة للصحافيين وللجمهور في البرامج والمقابلات.

وصل النظام الديمقراطي الفرنسي إلى حدودٍ تجعله قليل القدرة على معالجة مشكلات عموم المحكومين الذين باتوا يشعرون أن نفوذية هذه الديمقراطية لا تمرّر تأثيرهم إلى المستويات العليا

ما يكمن في أساس تراجع الأحزاب التقليدية أو بروز ظاهرة صعود شخصٍ بأفكارٍ ضحلةٍ في فرنسا، هو وصول النظام الديمقراطي إلى حدودٍ تجعله قليل القدرة على معالجة مشكلات عموم المحكومين الذين باتوا يشعرون أن نفوذية هذه الديمقراطية لا تمرّر تأثيرهم إلى المستويات العليا. هناك بالتالي يأس من الطبقة السياسية ونزوعٌ إلى نسف التوافقات، وإلى التأثر بغواية الأفكار الصادمة. يتلاقى هذا الميل الشعبي مع ميل نخبوي للهروب من المشكلات الفعلية للبلاد نحو لغة وتحليلات هوياتية زائفة لمشكلات فعلية، ما يؤدّي إلى بروز الظاهرة المذكورة. أما في تونس فإن سبب بروز سعيّد هو تحوّل الديمقراطية الناشئة، باعتبارها حديثة العهد في بلدٍ محقون سياسياً، إلى مسرح للصراع الحزبي وعجزها عن ملاقاة توقعات الشارع العريضة بالحرية والرخاء.

في الانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، اخترق الطبقة السياسية رجلٌ اسمه إيمانويل ماكرون، وكان قد شكل حوله تياراً سياسياً (إلى الأمام) قبل سنة من الانتخابات، ونما هذا التيار بسرعة على حساب اليمين واليسار الفرنسيين، فهذا التيار ينظر إلى نفسه أنه يتجاوز اليمين واليسار أو يجمعهما. والحق أن الفرق السياسي بين اليمين واليسار التقليديين في فرنسا ضبابي. جدّة ماكرون على المشهد السياسي (كان وزير الاقتصاد في رئاسة الاشتراكي فرانسوا هولاند أقل من عامين ولم يسبق له أن انتُخب لأي منصب) لم تكن عقبةً في طريقه. العكس أصحّ، فعلى خلفية ركود الطبقة السياسية وتكرارها بين يسار اشتراكي ويمين جمهوري، ساعدت حداثة الرجل (حداثته على المشهد وحداثة عمره)، وتوجهه الهجين الاشتراكي الليبرالي، في توجّه أنظار الناخبين إليه، فانحصر خيار الفرنسيين في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية بين الوسط (ماكرون) واليمين المتطرّف (مارين لوبين).

محدّد الشر عند سعيّد سياسي يتعلق بالولاء، وهو عند زمور ثقافي يتعلق بمفهوم "مغلق" عن الحضارة الفرنسية

اللافت في هذا المشهد أن صعود ماكرون ترافق مع تراجع الحزبين التقليديين في فرنسا، فقد تراجع الحزب الجمهوري وخسر مرشّحه إلى الرئاسة (فرانسوا فيون) من الدورة الأولى. وقد ساهم في خسارته وقوعه تحت ضغط فضيحة فسادٍ فجّرتها الصحافة الفرنسية في وجهه حينها. كما تراجع، أو قل انهار، الحزب الاشتراكي الذي عانى من تفكّك ونزيف في الكوادر، لصالح حركة إلى الأمام، واضطرّ، تحت ضغط أزمة اقتصادية وسياسية، إلى بيع مقرّه في باريس. وقد حصل مرشحه الرئاسي، بنوا آمون، على 6% فقط من الأصوات في الدورة الأولى، وخسر حتى مقعده في البرلمان بعد ذلك، ما دفعه إلى تأسيس حركة مستقلة عن الحزب الاشتراكي باسم "أجيال"، تكاد لا تذكر اليوم. في موازاة ذلك، ارتفعت أسهم ما يصنّف يسارا متطرّفا، ممثلاً في "فرنسا العصية"، وأسهم اليمين المتطرّف ممثلاً في "الجبهة الوطنية" التي أصبحت "التجمّع الوطني" لاحقاً.

كان الحكم الوسطي لماكرون فترة خصبة للاحتجاجات والإضرابات التي اندلعت بسبب تجرّؤ هذا "الوسط" على مهاجمة مكتسبات تاريخية للشعب الفرنسي، مثل القدرة الشرائية وقانون العمل وسن التقاعد. في 2018، برزت احتجاجات "السترات الصفراء" التي كشفت أن هناك فئات واسعة من الشعب الفرنسي تعاني من مشكلات معيشية، وأن الصراعات الحزبية كانت غالباً بعيدة عن هذه الهموم، ما جعل "السترات الصفراء" تتحرّك ضد الطبقة السياسية بالكامل. قدّمت حينها الاحتجاجات مطالب شعبية واضحة ومحدّدة، تم الاستجابة لقسم قليل منها، ثم تفتّتت الحركة بتأثير الزمن وتصعيد القمع والجائحة الفيروسية، وأيضاً لأن بعض شخوصها البارزين انساقوا وراء طموحاتٍ سياسية.

يقال إن المسيح قد انتصر، لأنّ سبارتاكوس كان قد هزم. بالقياس، يمكن القول إن بروز شخصية مثل إريك زمور صار ممكناً أكثر لأنّ حركة السترات الصفراء تراجعت.