بيرني ساندرز الاستثنائي
ينتقد السيناتور الأميركي بيرني ساندرز في عدّة مواقف سياسية مهمّة، حكومة بنيامين نتنياهو، لوقفها المساعدات الٳنسانية ٳلى غزّة، واصفاً تجويع الأطفال والمدنيين وقتلهم بأنه "جريمة حرب"، وهو يقود حملةً ضدّ ٳدارة دونالد ترامب الثانية، ويجوب بحركة "إيقاف الأوليغارشية" على ولايات نبراسكا وويسكونسن وميشيغان وأيوا، محذّراً من سيطرة ترامب المطلقة، ومن عواقب سياسات متطرّفة بشكلٍ متزايد، بما في ذلك فصل عشرات آلاف من الموظفين الحكوميين، مشيراً ٳلى أن الحزب الديمقراطي تخلّى عن الطبقة العاملة، ما دفع هذه الشريحة إلى التخلّي عن الحزب في المقابل.
لا يُعرف ما هو الأسوأ من ذلك الصمت والتنازل والغضب داخل القاعدة الديمقراطية (تواجه عجز الحزب في مواجهة أسوأ السيناريوهات التي يمكن تصوّرها بعد عودة الملياردير في نوفمبر/ تشرين الثاني إلى البيت الأبيض في لحظة دراماتيكية من التاريخ الأميركي) أكثر من تناوب كلاسيكي في ٳغراء الشعبوية السيادية الأكثر قسوة، والأقلّ ميلاً إلى التسوية لحركة "اجعل أميركا عظيمةً مرّة أخرى"، والٳدارة الجديدة تضحّي بالمصداقية الدولية من أجل تحقبق أهدافٍ، قد لا تستحق المتابعة. يواجه الديمقراطيون مصيرهم في التحوّل السياسي الهائل، والاضطرار ٳلى الاستسلام الافتراضي في معركةٍ تُنسى بسهولة والبلاد في أزمة، وبدأ يظهر بوضوح، بحسب استطلاع شبكة أن بي سي نيوز، أن لدى 27% فقط من الأميركيين رأيا إيجابيا حول الحزب الديمقراطي، وهو أدنى مستوى منذ 35 و30 عاماً. وأظهرت دراسة أخرى لقناة سي أن أن أن 63% من المتعاطفين مع اليسار لا يوافقون على توجّهات الديمقراطيين، وهو انخفاضٌ بمقدار تسع نقاط منذ يناير/ كانون الثاني الماضي، ما يعكس بوضوح الإحباط العام.
فقد الأميركيون الثقة بالمستقبل بسبب فشل استراتيجية الديمقراطيين وتحوّل المؤسّسات الأميركية شركةً كبيرة، فيما المطلوب منهم أن يدافعوا عن القيم الفلسفية المرتبطة بأذهانهم، لا أن ينأوا بأنفسهم عن معارضة مشاريع ترامب، لا سيّما في مسألة توزيع الثروة الأميركية ومسألة التحديث الجارية في واشنطن. وهناك تصوّر أيديولوجي أكثر وضوحاً بين الجمهوريين، بأن ترامب يرغب في الإمساك بكل شيء، ولا يريدون الاعتراف بأن أميركا منقسمة.
أدار الديمقراطيون المعركة الانتخابية بشكل سيئ جدأً، ولم يقدّموا للأميركيين تحذيراتٍ كافية بشأن ما صوّروه عن نيات ترامب "الأوليغارشية"، ومن دون تقديم تفسير لمواجهتها سياسياً، فالناس ليسوا مرتاحين في مواجهة ماديّة الولايات المتحدة، ما يمثّل تهديداً اقتصادياً وأخلاقياً لهم وللعالم، فالانتقام لا يصنع سياسة، ولا حتى أملاً، عندما يكون صراعياً خارج القانون والتوازنات الجيوسياسية. لا يكفي أن يركّز زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ، تشاك شومر (73 عاماً)، في تجنّب الإغلاق وانقطاع الأنشطة الفيدرالية غير الأساسية والتمويل الحكومي، لأن مثل هذا الٳغلاق كان سيسعد ٳدارة ترامب في خطّته لتفكيك الفيدرالية وتقليص البرامج التي يحتاجها الناس بشدّة. ذلك أن اهتمام عامّة الناس أكبر أيضاً في مسألة "الجغرافيا السياسية"، فالمصطلح ذاته خاضعٌ للنقاش لفهم العالم المعاصر، ما يحتاج تفسيراتٍ أكثر جدليّة في ما يسمّى الواقعي في العلاقات الدولية، و"على الديمقراطيين أن ينتبهوا".
فقد الأميركيون الثقة بالمستقبل بسبب فشل استراتيجية الديمقراطيين وتحوّل المؤسّسات الأميركية شركةً كبيرة
لم يثبت الديمقراطيون أيّ فرصة لٳعلان فائدتهم من خلال ٳعادة تشكيل منصّتهم، ويبدو مجال المناورة ضعيفاً في مواجهة الاستخدام المكثّف للمراسيم الرئاسية، التي تجعل من أميركا خارج ما يقوم عليه القانون الدولي، وفي رؤيةٍ مروّعةٍ تقدّمها عن الأسواق المالية، ونماذج للاقتصاد تقرّبها من دول العالم الثالث في التضخّم والمديونية وتعطيل سلاسل التوريد والأوضاع غير المستقرّة، وانتقلت المواجهة المركزية من الكونغرس إلى المحاكم، حين يحاول القضاة الفيدراليون الحفاظ على مبادئ سيادة القانون.
اجتذبت لقاءات ساندرز حشوداً كبيرة ومتنوعة. ليست حملته انتخابيةً، يحثّ ساندرز الديمقراطيين على ٳعطاء الأولوية لصوت القاعدة مرّة أخرى، وعلى أن يبدأوا في الهجوم، ولا سبيل لتجاهل التحذيرات التي يطلقها معظم الاقتصاديين والأكاديميين من حرب تجارية وعقارية وصفتها "وول ستريت جورنال" بأنها "الأغبى في التاريخ"، تقوم على سياسات متطرّفة غير قانونية وغير دستورية بشكل صارم. لا يزال صوتُه مسموعاً، يتمتّع بشعبية في المعسكر التقدّمي، يبعث رسالة الأمل ٳلى العالم في مواجهة "منتهكي الديمقراطية"، وهو يكشف اتساع الممارسة الخطرة على حقوق الٳنسان والمساواة الاقتصادية والقسوة في ٳنكار حقوق المهاجرين والوقائع المؤلمة في السياسة الخارجية، كما في فيلم كارثي يقلق البشرية. والجمهور يشعر بالغضب من سياسة الديمقراطيين، التي تدير الظهر من دون ردّات فعل، بدل التكيف مع الواقع السياسي الجديد لجهة تبني أجندة مواجهة سياسية جريئة.
تعيد رسالة ساندرز ربط الديمقراطية بالطبقة العاملة، التي أهملها الحزب الديمقراطي في السنوات الماضية، وتعبّر عن سياسة تقدّمية يمكنها انتزاع المستقبل، وثقة الناخبيين بعد شعورهم بفقدان السلطة، إذ ينبغي للزعماء الديمقراطيين أن يفعلوا شيئاً للحصول مجدّداً على الدعم، والحفاظ على الزخم في مواجهة ترامب قبل انتخابات التجديد النصفي لعام 2026، ٳذ إن المطلوب النضال من أجل الضمان الاجتماعي، والفصول الدراسية، ورفاهية البلاد، وحماية التنوّع الاجتماعي. وستكون الانتخابات بمثابة اختبارٍ لقياس تطوير الرأي العام. ساندرز في ثورة المتمرّد. لا يوجد شيء يمكن أن يوقفه، "المعركة هي ضمان بقائنا في دولة ديمقراطية، ولن نسمح بأن تصبح أميركا أقلّيةً وفي أكثر أنواع العزلة تطرّفاً".
يُلهم ساندرز جيلاً جديداً من السياسيين التقدّميين، ويفوق نفوذه دوره عضواً في مجلس الشيوخ، لكن تأثيره على الانتخابات قد يبقى محدوداً
أصبح الرجل المستقل رجل اللحظة الاشتراكية الديمقراطية، يطالب بتعبئة الشباب الذين يعارضون الملياردير ٳيلون ماسك وفريق المليارديرات، الذين يملكون ثروات أكثر من 165 مليون أميركي، ويقول لهم "تحرّكوا بالشجاعة والقليل من الفطرة السليمة". وهو يعتمد على خيبة أمل القاعدة الجمهورية، فيدعو إلى ترشيح المستقلّين وإنشاء حركة سياسية واقتصادية تعمل لصالح الأميركيين جميعاً. من الواضح أن الرسالة التي ينشرها تلقى صدىً لدى الناخبين شخصيةً مؤثّرة في السياسات العامّة رغم عدم فوزه بالرئاسة، وهو يدعو الديمقراطيين لتوسيع قاعدتهم وقبول مزيد من الرؤى التقدّمية لما يمكن أن يكون عليه الحزب، بدلاً من تكرار الاستراتيجيات القديمة نفسها.
لم يتوقّف الرجل الثمانيني عن التنديد بالانتهاكات الصارخة للقانون فيما يتعلّق بمبيعات الأسلحة لٳسرائيل، التي تنتهك حقوق الٳنسان والقانون الدولي، وتحظر وتقيّد نقل (أو تسليم المساعدات) الإنسانية على نحو مخالف لقانون المساعدات الخارجية العام 1962. وتقدّم بعدّة قرارات ٳلى الكونغرس لوقف "فظائع التمويل"، التي دمّرت المباني والمساكن والمدارس والمستشفيات في غزّة، وأصابت الفقراء والمعدومين والذين أُجبروا على الإخلاء مراراً وتكراراً. يعتبر ساندرز أن هذا كلّه أمر "لا يوصف، وغير أخلاقي"، لكنّ الأكثر ٳيلاماً هو أن "كثيراً من هذا الموت والدمار في الحرب يُنفّذ بأسلحة أميركية، ويدفع ثمنه دافعو الضرائب الأميركيين".
يُلهم ساندرز جيلاً جديداً من السياسيين التقدّميين، ويفوق نفوذه دوره عضواً في مجلس الشيوخ، لكن تأثيره على الانتخابات قد يبقى محدوداً، خاصّة مع استمرار هيمنة الحزبيين التقليديين، وصعوبة صعود المستقلّين، وعوائق قانونية بالوصول ٳلى بطاقات الاقتراع. مع ذلك، قد يمهّد التراجع السياسي للحزبين الجمهوري والديمقراطي الطريق لظهور خيار ثالث من اليسار واليمين، بهدف تقديم بديل سياسي.