بوتين وترقّب ترامب
ما الذي يتوقّعه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من نظيره الأميركي دونالد ترامب كي يمنحه الثقة المطلقة ويتراجع عن التصويب على "الغرب الجماعي"، في مقابل التحذير من "بعض النخب الغربية"، فيما أن ترامب، بكل ما يمثله من رأسمالية فاقعة وعلاقات مريبة مع مافيات نيويورك وأحكام قضائية طُويت، يجسّد "الغرب الجماعي" بسعيه إلى تكريس تفوّقه باسم الولايات المتحدة على العالم؟ يكفي أن الرئيس الأميركي أجاب، بطريقة مبهمة، عن سؤال لمراسل في البيت الأبيض، أول من أمس الخميس، يتعلق بما إذا كان لا يزال على وصفه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بـ"الديكتاتور". كان جواب ترامب غريباً: "هل قلت هذا؟ لا أصدّق أنني قلت هذا. سؤال آخر". في الواقع، يمكن لترامب العودة إلى الوراء بضعة أيام، ليرى بعينيه ما يُفترض أن كتبه على منصته "تروث سوشال" بحقّ زيلينسكي من نعوت، بدءاً من كلمة "ديكتاتور". حتى إن إيلون ماسك واكبه بذلك. إذاً، ما الذي يراهن عليه بوتين حيال شخص يُظهر إما عن خبث لامتناهٍ في صياغة الصفقات في العالم، أو أنه فعلاً بات البيت الأبيض مسكناً لجو بايدن آخر.
في العادة، يتطلّب بناء كل شيء، من العلاقات الإنسانية إلى ناطحات السحاب، الكثير من الوقت، فيما لا يتطلّب تدمير أي منها سوى لحظة. بالتالي، ما تهدّم طوال مرحلة الغزو الروسي لأوكرانيا في السنوات الثلاث الماضية، لا العلاقة الروسية ـ الأوروبية فحسب، بل أيضاً القدرة على بناء الثقة المتبادلة بحضور من هدمها. كذلك، فإن مسارعة ترامب إلى جسر العلاقات مع روسيا لا تتأتّى من نظريات مؤامرة تتّهمه بأنه كان عضواً في الاستخبارات السوفييتية، بل إن نوازع شخصية تسيّره، في ظل حافز الثأر من "تزوير انتخابات 2020"، حتى لو طُمست في الوقت الحالي. شخص مثل ترامب لا يؤمن بأن الفرصة الثانية هي لإتمام ما لم يتمكّن من إنجازه في ولايته الأولى (2017 ـ 2021)، بل هي أقرب إلى الانتقام من كل شيء. يكفي أنه بعد أكثر من شهر ونيّف على تسلمّه مهامه رسمياً، لا يزال يطارد أشباحه، تحديداً بايدن، ملقياً عليه كل ما تعانيه أميركا اقتصادياً وسياسياً. وبايدن ليس معصوماً عن الخطأ، لكن الاستمرار في اتهام عهد سابق يوحي وكأن لا عهود سبقته، ولا أن ترامب نفسه كان موجوداً قبل بايدن.
عدا ذلك، لا يكتمل "فريق المنتقمين" إلا بوجود ماسك، الثائر على ولاية كاليفورنيا الديمقراطية، ونائب الرئيس جي دي فانس، الساعي إلى دفن ماضٍ بائس. هنا يُصبح السؤال مشروعاً بشأن ما إذا كان هذا الثلاثي يعمل على هزّ الدولة العميقة فعلاً، أو أنه يبني واحدة أخرى لا تشبه إلا أفلام أبوكاليبسية في نهايتها؟ صحيحٌ أن النظام الأميركي بمتانته يبقى أقوى من احتمال الاهتزاز على يد ترامب، إلا أن الضرر الناجم عن تصفية البيروقراطية قد لا تظهر نتيجته في الوقت الحالي، لكنها ستُصبح أمراً واقعاً بعد فترة، ما سيُحدِث واقعاً أكثر حدّة من الأزمات المالية لعامي 1929 و2008. ومن الطبيعي فهم أن أي تدهور في الولايات المتحدة وللولايات المتحدة يعني حكماً تدهوراً عالمياً يطاول كباره، من روسيا والصين والاتحاد الأوروبي، قبل الآخرين. هل ينتظر بوتين فعلاً من ترامب تغييراً أميركياً تجاه روسيا؟ وعلى افتراض أن ترامب موافق على ترك أوكرانيا لروسيا، ما الذي سيجعلها لاعبة أساسية في أرجاء أخرى من العالم، مثل القطب الشمالي وغرينلاند؟ ترامب الذي قال إن "أوكرانيا لن تصمد من دون السلاح الأميركي"، هو نفسه من هدّد بوتين في عام 2022 بالقول: "أنظر إذا ذكرت كلمة نووي مرّة أخرى، فإننا سنرسل الغواصات النووية إلى سواحلكم". في توقّع بوتين رهان كبير على ترامب، ليس من الواضح أنه من السهل كسبه.