بوتين من ميونخ إلى بطرسبورغ

بوتين من ميونخ إلى بطرسبورغ

22 يونيو 2022

بوتين يلقي كلمته في منتدى بطرسبورغ الاقتصادي الدولي (17/6/2022/Getty)

+ الخط -

بين فترة وأخرى، يتوقف صحافيون ومتابعون وأكاديميون، وأحياناً سياسيون، عند خطاب مفصلي يلقيه فلاديمير بوتين. أحد خطاباته الذي أسال حبراً كثيراً يعود تاريخه إلى فبراير/ شباط 2007، وقد احتضنه مؤتمر ميونخ للأمن. أما أحدثهم شهرة، فهو الذي أدلى به على امتداد 73 دقيقة يوم الجمعة الماضية، في 17 يونيو/ حزيران، خلال الجلسة العامة لمنتدى بطرسبورغ الاقتصادي الدولي الخامس والعشرين. بين 2007 و2022 تحوّل العالم. تحوّل كل شيء إلا فلاديمير بوتين. كأنها كانت أكثر بكثير من 15 عاماً بالنسبة إلى العالم، وكأنه كان الأمس بالنسبة إلى بوتين. تغيرات كثيرة داخل روسيا وداخل أميركا، داخل "الغرب" الذي يعاديه بوتين وداخل بلدان الشرق. في حلف شمال الأطلسي وبلدان الاتحاد الأوروبي، في نظرة روسيا إلى نفسها كأوروبية أو كأوراسية وإلى العالم، في نظرة العالم إلى روسيا وأخيراً في تجويع روسيا ــ بوتين للعالم و"تربيته" بسلاح الغذاء ومصادر الطاقة والأسمدة.

حين ألقى بوتين خطاب ميونخ، كان سجله الحربي متواضعاً. حرب واحدة في الشيشان، لم يفجرها هو، بل أدارها وأنهاها، ومعروفٌ أن فلسفة الرجل في إنهاء الأمور ممهورة بختمه: سياسة "الأرض المحروقة" التي صارت "مدرسة". في خطابه ذاك، خلطة من إهانة ذكاء المستمعين والشعبوية والتبسيط الذي يُشعر المخاطَب بضيق لا يطاق في الصدر، إلا أولئك الذين يرون ملامح لينين على قسمات بوتينهم، وهؤلاء الذين وجدوا قائداً لا يشبه الآخرين، سيخلّص البشرية من الأحادية القطبية ليدخل النظام العالمي الجديد الروسي ــ الصيني حيّز التنفيذ. يستغرب بوتين في ميونخ كيف "ترفض بلدان عقوبة الإعدام بينما تشارك في حروب غير شرعية يسقط فيها مئات آلاف الضحايا". هذا كلام بوتين لا الأم تيريزا ولا المهاتما غاندي. ثم يضع على لسانه كلمة ديمقراطية، ولا يتعب من تكرارها، ويحدّد سبب مشكلته مع العالم الذي تحكمه الأحادية القطبية بأنه "يجافي الديمقراطية". ولأن هذا العالم تحكمه أحادية قطبية، يتابع الرئيس الروسي، فقد "ازدادت الحروب المحلية والإقليمية وبتنا نشهد استخداماً غير مضبوط ومبالغاً فيه للقوة العسكرية في العلاقات الدولية". أكثر من ذلك، يحمّل بوتين في خطاب ميونخ أميركا مسؤولية التسبّب في سباق تسلح عالمي. ولكي يقنع أميركا والغرب وأوروبا تحديداً بفوائد الديمقراطية التي لا يعرفونها هناك في تلك البلدان، يدعوهم إلى تأمّل تجربة التحوّل السلمي نحو الديمقراطية في بلدان المعسكر الاشتراكي التي راح يقضمها بوتين الواحدة تلو الأخرى ويضمها إلى الأراضي الروسية.

ذهبت الأيام وعادت الأيام، ووصلنا إلى بطرسبورغ من بعد حروب جورجيا والقرم فسورية وأوكرانيا وجبهات "فاغنر" متعدّدة القارات، فتلويح بالضغط على الزر النووي بحماسة منقطعة النظير وتجويع الكرة الأرضية... كل شيء في العالم تغير إلا فلاديمير بوتين. موقع "روسيا اليوم" (هناك من يسميه وسيلة إعلامية) فرّغ جزءاً مطولاً من كلمة بوتين في بطرسبورغ. الديمقراطية، بعدما كررها مراراً في ميونخ، وردت مرة واحدة على لسان الرجل في خطاب يوم الجمعة الماضية، وفي أي سياق؟ في قوله إن "العمليات الديمقراطية في أوروبا تشبه السيرك". معروف منذ أيام الرومان أن السيرك يتقاسمه مهرجون وراقصون وممثلون كوميديون وأكروباتيون. هؤلاء بالنسبة إلى ضابط الاستخبارات، أدنى مراتب البشر ربما لكي يجعلهم تجسيداً لشتيمة تليق باحتقاره الديمقراطية. في خطاب بطرسبورغ، لدينا حكمة من نوع أن "لا علاقة للعملية العسكرية الخاصة (الحرب على أوكرانيا) بارتفاع أسعار الغاز في أوروبا"، وبشرى أن روسيا "تبتعد عن العولمة"، وجزم بأن جوهر المشكلة العالمية الحالية يكمن "في السياسات الاقتصادية الغربية في الفترة الأخيرة".

كم هو حقير هذا العالم الذي نعيش فيه، وكم هو مهين أن يضطر المرء إلى تهذيب مفرداته لدى الكتابة عن رجل يقتل ويحتل ويقضم بلداناً ويهين شعوباً ويهدد ويجوّع ويبتزّ... وفي النهاية يخبرنا عن بشاعة الأحادية القطبية الأميركية.

أرنست خوري
أرنست خوري
أرنست خوري
مدير تحرير صحيفة "العربي الجديد".
أرنست خوري