بوتين في أوكرانيا وردود الأفعال الأورو- أميركية

الامبراطوري بوتين في أوكرانيا وردود الأفعال الأورو- أميركية

01 ابريل 2022

أوكرانيات في اسطنبول يتظاهرن ضد الهجوم العسكري الروسي على بلدهن (26/2/2022/ Getty)

+ الخط -

ليس الغزو الإجرامي الرّوسي أوكرانيا الذي هزّ العالم مجرّد حرب معزولةٍ، بل هو أيضا حرب استثنائية، تقوم استثنائيتها على إمكانية تحوّلها إلى حربٍ عالمية ثالثة، وعلى نحو أكثر تحديدا على خطر تحوّلها إلى حرب نووية. يعتبر توسّع حلف الناتو شرقا بمثابة الاستفزاز أو، على الأقل، ووفق تعبير الفيلسوف الفلسطيني عزمي بشارة (2022)، "إصرارا على عدم تجنّب المسار المؤدّي إلى الحرب''. ومع ذلك، هذا لا يبرّر البتّة هذا الغزو الوحشي، والتعدّي أحادي الجانب على سيادة دولة. تجدُر الإشارة إلى أن الجمعية الدّولية لعلم الاجتماع أصدرت بيانا مع بداية هذه الحرب، أعربت فيه عن قلقها إزاء العدوان العسكري الذي تشنّه روسيا ضدّ أكرانيا، فبالنسبة إليها، وإلي كاتب الورقة، ليست الحرب مطلقا حلّا مقبولا، وهي تتعارض مع كل القيم التي ندعمها ونتمسّك بها.[1]

ما انفكّت روسيا، بزعامة الرئيس فلاديمير بوتين، تعمل على تقويض المُثل الديمقراطية اللّيبرالية التي دأبت الإنسانية، منذ وقت طويل، على بنائها والارتقاء بها. ولا يحتل بوتين منصبه في الحكم منذ سنة 2000 فحسب، بل هو ظلّ يشنّ الحرب بهمَّةٍ وبلا هوادة ضدّ كل محاولةٍ عمليّةٍ لإقامة الديمقراطية في بلده، ويعوقها في بلدان أخرى (حيث دلّل على ذلك في جورجيا، وسورية، وأوكرانيا، إلخ ...). حذا بوتين، على امتداد حكمه، جزئيا، حذو بعض تصرّفات القوة الأميركية الأحادية (غزو العراق)، لكن الفارق هنا هو في طبيعة النظام العراقي لصدّام حسين الذي كان بالتأكيد دكتاتوريا. أوكرانيا بلد ديمقراطي، لكن قضية منظّمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) مسألة تدفع إلى انقسام بالغ.

واستنادا إلى استطلاعات رأي أُجريت أخيرا، بدا سكان أوكرانيا منقسمين، فبينما يؤيّد أكثر من نصفها الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، عبّرت نسبة تراوح ما بين 40% و50% فقط عن رغبتها في الانضمام إلى حلف الناتو. (بشارة، 2022). ثمّة حِكمة في هذا الموقف المزدوج، إذ هو يأخذ في الاعتبار النزعة البائسة "لقومية القوة العظمى" (great power nationalism) لدى روسيا. حريٌّ بالذكر أن هذه القومية تنبني أساسا على ثلاث دعائم. تتمثل الأولى في الهوية الروسيّة التي أقامتها الكنيسة الأرثودوكسية وعهد القياصرة. بينما تقوم الثانية على الهوية السلافية (الاعتقاد بانتماء روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا للحيّز الجغرافي نفسه). وترافق هذين الدعامتين، وبدرجة أقلّ تأثيرا، الهويّة الأورو- آسيوية )أوراسيا)، وهذه تعدّ ضرورية لتعزيز عظمة روسيا من خلال التحالف مع الجمهوريات السوفياتية الآسيوية السابقة ومع الصين. فبعد أن أشار ماركس إلى روسيا القيصرية في القرن التاسع عشر بوصفها معقل الرجعية في أوروبا، ها هي روسيا بوتين الشعبوية تؤدّي هذا الدور ثانية [2] ، بصرف النظر عن النجاح الذي أحرزه الاقتصاد في عهده. وهو الدور نفسه الذي شهده الكاتب وعاشه بنفسه في وقت سابق، خلال الحرب الروسية (والإيرانية) في سورية، وهي مثال على استعراض قوتها في "الفضاء الكبير" الذي يتجاوز الدولة الأمّة و"الديمقراطية الهويّاتية". هي وجهة نظر تعكس تصنيفات كارل شميت Carl Schmitt  في بارادايم بوتين (المحلي والإمبراطوري) (Lewis 2020)  الذي روّجه الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين، واستلهم منه بوتين.

 

حرب استثنائية، تقوم استثنائيتها على إمكانية تحوّلها إلى حربٍ عالمية ثالثة، وربما نووية

تسعى هذه الورقة إلى مشاركة قرائها تحليلها، لا فقط بصفة كاتبها باحثا سوسيولوجيا، بل بوصفه شخصا يعيش في المنطقة العربية، محاولا تقديم أربعة دروس، يمكن استخلاصها من هذه الحرب.

أولا، ثمّة معيار مزدوج في العلاقات الدّولية الأورو- الأميركية خطابا وممارسة، ففي الجنوب الكوني، جرى حَظر استعمال مفرداتٍ، مثل المقاومة والمقاطعة والمقاتلين من أجل التضامن، في حين تحظى تلك المصطلحات نفسها بدلالةٍ إيجابية، حين استعمالها في وصف الحرب في أوكرانيا. ولعلّ أجدرها بالذكر ما استدلّ به رئيس الجمعية الإسرائيلية لعلم الاجتماع، ليف غرينبورغ Lev Grinberg [3]، بوضوح حين كتب: ''كيف يمكن أن تكون إسرائيل محتلّة عسكريًا للأراضي الفلسطينية 55 عامًا، في انتهاك صارخ  للقانون الدّولي، ولا تفرض عليها أي دولة غربية عقوبات ضدّها مطلقا؟ كيف أمكن هذا؟". وفي السّياق نفسه، وبينما يجرّم الباحثون الأوربيون في دول غربية حركة المقاطعة العالمية وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) الفلسطينية، تهافت عديدون منهم على الدعوة إلى المقاطعة التامة للعلماء الروس على مستوى الأفراد والمؤسسات.

ثانيا، كيف لم تثر وحشية الحرب في مناطق أخرى من العالم ردود فعل أورو - أميركية كثيرة مقارنة بما كان من ردود الأفعال على الحرب على أوكرانيا؟ تتعدّد الطرق وتختلف الأساليب في روايتي مجريات حياتي بوصفي فلسطينيا نشأ وترعرع في سورية. أحدها أن أراها واقعة ما بين حروب منطقةٍ لم يتسلّل إليها إلا القليل من لحظات السلم سريعة التلاشي: الحربان العربيتان الإسرائيليتان سنتي 1967 و1973، والحرب الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، الانتفاضة الثانية 2000-2005، والحروب الإسرائيلية في غزة ، 2008، و2012، و2014، و2021، الحرب الإسرائيلية في لبنان سنتي 1982 و2006، والحرب العراقية الإيرانية 1980-1988، وغزو الكويت 1999، والحرب في العراق 1999 و2003 ، ثمّ الحرب على سورية  التي تدور رحاها منذ 2011، والحرب في اليمن منذ 2014، وكذلك الحرب في ليبيا ما بين 2014 و2020. لقد ألحقت هذه الحروب الشرسة أقدارا عالية من الدمار الشامل والمعاناة والتهجير والموت، هي أعلى بكثير من درجات ما ألحقته الحرب بأوكرانيا. ردّت القوى الغربية ولا تزال باعتدال، ودعّمت، في أحيانٍ كثيرة، القوة الاستعمارية (إسرائيل) أو الديكتاتوريين (في الخليج ومصر باسم الاستقرار ولأسباب اقتصادية).

تعارض الدعوة إلى المقاطعة الأكاديمية لأي روسي أو بيلاروسيي مع القيم التي تسعى الأوساط الأكاديمية إلى تعزيزها

ثالثا، عجزت بعض الانتقادات ما بعد الاستعمارية (الأورو- الأميركية منها) التي ركزت على الإمبريالية التاريخية أو على الاستعمار الجديد الراهن إدراك أثر الإمبراطوريات الناشئة الأخرى ومدى وحشية غزوها مناطق الولاء. روسيا وإيران وإسرائيل وتركيا وممالك الخليج امبراطوريات فاعلة في الشرق الأوسط بالغة الأهمية، أدّت بعض أعمالها العسكرية إلى حالات استعمار وبؤس واستبداد. في هذا السياق، يعتبر مفهوم لورا دويل (Laura Doyle) عن "الإمبريالية - المتوازية" inter-imperiality) مُفيدًا، لأنه يدعونا إلى فهم الإمبراطوريات، ليس فقط بوصفها ذات طبيعة متعاقبة، بل على أساس أنها، وفي أغلب الأحيان، تعمل بشكلٍ متناظر، بحيث تكون "السياسات التي تنتجها سويًّا، والمشروطة إلى درجة كبيرة بعوامل أخرى، وسياسات التاريخ الإمبراطوري المعاصر المتفاعلة، ذات آثار غير متوقعة، وفي بعض الأحيان، مثيرة للسّخرية" (Doyle 2014: 179). وعليه، لا وجود ضمن هذه الديناميكيات متعدّدة الاتجاهات أو الإمبراطوريات الجذمورية (rhizomatic)، لتداعياتٍ متعاقبة، بل هي ذات تداعيات عنيفة التفاعل، ذات تموقع مؤسساتي، واستهداف الخصم استراتيجيًا.

رابعًا، تتعارض الدعوة إلى المقاطعة الأكاديمية لأي روسي أو بيلاروسيي مع القيم التي تسعى الأوساط الأكاديمية إلى تعزيزها. أؤمن حقّا بالالتزام الأخلاقي بمقاطعة مؤسّسية ضد أي مؤسسة ذات صلة بقوى استعمارية أو استبدادية، ولكن ليس على المستوى الفردي. من الأهمية البالغة التعامل مع الأفراد المعنيين، والتواصل معهم، من أجل الاستماع إلى المقاربات المختلفة إزاء النزاعات وتعزيز ظروف حوار مفتوح ونشط. هذا يعني أن مهمّتنا لا تقتصر على مجرّد مساندة أولئك الذين يتبنّون مُثُلا ديمقراطية ليبرالية، بل نحتاج في الدوائر الأكاديمية أيضًا إلى الاستماع باهتمام للذين يرفضون تبنّي هذه المُثُل، جزئيًا أو كليًا، والاضطلاع بدور الوساطة، وتقريب المواقف، وتعزيز استراتيجية وجدانية وأخلاقية وسياسية. (انظر Huamán 2022 عن الدور الجديد المناط بعلماء الاجتماع). وإنّي لأدعو، مقابل نظرية اجتماعية نقدية راديكالية، إلى نظرية نقدية موقفيّة (situated critical)، تكون، وفي الوقت ذاته الذي تنتقد فيه القوى، قادرةً على فتح باب الحوار معها. وغني عن القول إنّ على الخطاب الأكاديمي أن يُصاغ في احترام بعض قواعد النزاهة الفكرية والمسؤولية الاجتماعية. تجعل هذه المسؤولية التي تمتنع عن الدّعاية والتحريض وشيطنة ثقافة الآخرين وخطاب الكراهية، إذ أن الحرية الأكاديمية أكثر حساسية من مجرّد حرّية التعبير المُفترض توفرها. دور الأكاديميا هو تحرير السياسة من التصور الشميتي  (نسبة إلى كارل شميت) للخصوم والأعداء، حيث تكون أعلى درجات الانتماء هي الاستعداد للقتال والموت صحبة أعضاء المجموعة الآخرين، وأعلى درجات الانفصال هي الاستعداد لقتل الآخرين، من المنتمين إلى جماعة معادية (Schmitt  [1932] 2007).

على الليبرالية السياسية، إذا ما رغبت في ضمان بقائها، أن تأخذ على محمل الجدّ أفكار منتقديها المعارضين، وألا تقابلها بالازدراء

أتفقُ تمامًا مع المؤرخ أميت فارشيزكي (Amit Varshizky) في ادّعائه أن على الليبرالية السياسية، إذا ما رغبت في ضمان بقائها، أن تأخذ على محمل الجدّ أفكار منتقديها المعارضين، وألا تقابلها بالازدراء. هو يذكّرنا بما كتبه الفيلسوف الألماني إرنست كاسيرير (Ernst Cassirer) عقب الحرب العالمية الثانية: "لكي تقاتل عدوًا عليك أن تعرفه. وهذا أحد المبادئ الأولى لاستراتيجية سليمة. لا تنطوي معرفة العدو على معرفة عيوبه ومواطن ضعفه فحسب، بل تعني كذلك معرفة مكامن قوّته. لقد كنا جميعًا عرضة لمثل هذه الاِسْتِهَانَة بقوة العدو. علينا أن ندرس بتمعّن أصول الأساطير السياسية وبنيتها وطرائقها وتقنياتها. يجب أن نرى الخصم وجهاً لوجه حتى ندرك كيفية محاربته"[4].

على سبيل الخاتمة: رفع مستوى التضامن

أخيرًا، وفي مواجهة المعاناة الاجتماعية بالحزم المطلوب، علينا ممارسة المنطق الأخلاقي الإنساني الذي يقترن بفطرية هبة مارسيل موس ويرتبط بالحب الاجتماعي بهدف توليد درجات مختلفة من التضامن تجاه الأقارب والجيران والوطن والإنسانية عامّة. ولئن كان علينا السعي مجتمعين إلى الحصول على أوسع شكلٍ من التضامن، تجاه هذه الإنسانية وما أطلق عليه يان كريستوف هالينجير  Jan-Christoph Heilinger  (2019) الالتزامات الكوسموبولتانية، ينبغي أن نقرّ بأن رد الفعل الأوروبي تجاه تداعيات الحرب في أوكرانيا يدلّ جليّا على مستوى تضامنٍ يُغذّيه على الأغلب التعاطف الثقافي اليهودي – المسيحي. وفي نهاية المطاف هوّيات قومية تتمايز عن الهوية الكوسموبولتانية. أقول هذا لأعدّل انتقاداتٍ صدرت عن الوسط الأكاديمي، وفيما يسود في الإعلام المتعلقة بالمعاملة المتباينة للاجئين، مثل كيفية استقبال اللاجئين السوريين والأفغان والأفارقة مقارنة باللاجئين الأوكرانيين. على المرء أيضًا أن يعترف بأن المستويات المختلفة للتفكر الأخلاقي هذه تمنعنا من أي تبسيط مثل النظر إلى المعاملة التفاضلية من منظور عرقي لا غير، أو اعتبارها من مظاهر العنصرية البحتة[5]. وعليه، يتعيّن على العلماء الغربيين أن يكونوا على استعداد لقبول التعاطف الثقافي/ الديني بين العرب أو المسلمين (ضمن مفهوم الأمة)، وعدم اعتبار ذلك، وبشكل منهجي، مشاعر طائفية خطيرة.

(كتبت الورقة بالإنجليزية، وترجمتها مشكورة فاطمة الرضواني)


[1]   أعلنت الجمعية الدولية لعلم الاجتماع أيضا تضامنها مع علماء الاجتماع الأوكرانيين ودعمت كلّ زملائنا حيث ما وجدوا، بما في ذلك من هم في روسيا الاتحادية وبيلاروسيا والذين ارتفعت أصواتهم عالية ضدّ هذه الحرب، مدافعين عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. كما وضعت الجمعية، على موقعها الإلكتروني، وتزامنا مع تطورات الأحداث، محتويات إضافية تضمّنت جميع البيانات المناهضة للحرب التي صدرت عن جمعيات وطنية لعلم الاجتماع وهيئات بحثية ومؤسّسات أكاديمية بما في ذلك البيان الذي تلقّيناه من الجمعية الأوكرانية لعلم الاجتماع.

[2]  https://litci.org/en/once-again-bastion-of-reaction/  

[3] https://www.972mag.com/ukraine-lebanon-russia-israel/?fbclid=IwAR0Qq6eemWkOmPJPfjzlPOl5VAeOmCppHmYQUKew7RwXHO1vDjZ6LDxttss.

[4]  https://www.haaretz.com/world-news/.premium.HIGHLIGHT.MAGAZINE-to-understand-putin-you-first-need-to

 -get-inside-aleksandr-dugin-s-head-1.10682008  

[5]  بالطبع ثمّة لهذا الانتقاد ما يبرره. انظر مثلا مقال هيليير المعنون "إن تغطية أوكرانيا كشفت عن تحيزات عنصرية قديمة العهد في وسائط الإعلام الغربية   ".H.A. Hellyer “Coverage of Ukraine has exposed long-standing racist biases in Western media”. https://www.washingtonpost.com/opinions/2022/02/28/ukraine-coverage-media-racist-biases/

4960A722-CE7E-400D-A647-339D9AB7AF19
ساري حنفي

أكاديمي فلسطيني، وأستاذ جامعي في علم الاجتماع، رئيس تحرير المجلة العربية لعلم الاجتماع "إضافات".