بنات أفكار الأمن العام

07 مارس 2025

(كمال بلاطة)

+ الخط -

الدولة الأمنيّة ليست مجرّد فكرة، أو مظهر واحد يُلقي الضّوء على اليد التي تقود عملية تقطير الحريّة، وقطعها عن الناس، بل هي بذرة تكبر بالتّدريج، تحت أعين الجميع، لكنها لا تلفت النظر إلى سرعة نموها إلّا عندما تتحوّل مصدرَ قلقٍ قريب. عدا ذلك، يتعوّد الناس، ولا شيء في اليد غير أملٍ يذهب ولا يجيء. تبدأ الدولة الأمنيّة سلسلة الاعتقالات. تتّهم وتُحاصِر وتُضيّق المجال حتى تختنق الحرّيات، ويصمت الناس الذين وُلِدوا أحراراً قبل أن تختمر فكرة الدولة وتتناسل ذرّيتها.

الدّولة الأمنية تشمل أشياء كثيرة، أهمها تحويل القوانين إلى هراواتٍ تصلح للضّرب على يد كلّ من تسوّل له نفسه التغريد خارج السرب الرسمي. ولا تعني طفرة السوشال ميديا أيّ شيء أمام جبروتها. صحيح أنّها ارتبكت لحظة صعود هذه الوسائل، وتخلخل توازنها، لكنّها مع ذلك نجت من الزلزال، ثمّ نتيجة تلك الصّدمة، التي كادت تُطيح منظومتها كاملةً، صمّمت نظاماً قانونياً قوياً يحميها، ولا يحمي الأفراد الذين عادوا ليكونوا طعمةً سائغةً أمام جبروت السلطة.

تكاثرت في المغرب التّهم الأمنية والصحف الأمنية والحسابات الأمنية في "فيسبوك" و"إنستغرام"، كأن إدريس البصري (وزير الداخلية الأسبق) بجبروته قد قام من قبره، وعاد لإمساك العصا والهشّ بها على رؤوس المغاربة، للحرص على بقائهم ضمن حدود المرعى الأمني الرّسمي. فالمواطنون الصالحون قطيع طيّب القلب، لا يخرج عن إرادة الأمن العام للبلاد، وكلُّ صوتٍ نشاز يسعى بلا شكّ إلى المسّ بالأمن والوحدة الوطنية.

تُمطَر التّهم بلا هوادة، وتساهم الصحافة المشبوهة في وصم المتّهمين بقائمة ثقيلة من التّهم، بعضها ما أنزل به القضاء من سلطان. فالناشط الحقوقي فؤاد عبد المومني، المحكوم عليه قبل أيام في قضية قامت على مشاركة تدوينة تصف الدولة بالهزال لا غير.. لا غير، تنزل عليه صحف ومواقع مقرّبة من السلطة ليل نهار باتهامات ومزاعم، فتنشر لائحة تهم كُيِّفت لتحمل مهمّات لا تخطر في باله ولا في بال غيره، منها الاتجار بالبشر والتآمر ضدّ الأمن الوطني للبلاد والمسّ بالوحدة الترابية. وهاتِ يا مديحة مظاهرَ الفضيحة.

الاعتقال هنا لمخالفي "قانون سير الأمن العام"، وهو قانون خفي، يتّسع ويضيق بحسب مزاج السلطة، لا يعني الحرمان من الحرّية فقط، بل الاغتيال العام للفئات المغضوب عليها أيضاً. وهذه الفئات لا تنفكّ تتوسّع، والمحظورات كذلك، فالتّطبيع صار مسألةَ أمن عام، لا يجوز التنديد بها. وهي جريمة رضوان القسطيط، المدوّن المناهض للتطبيع، المسجون منذ أسابيع تحت طائلة تهم لا تنبش سيرة التهمة الحقيقية، وهي مناهضة التطبيع.

إطلاق سراح صحافيين ومدوّنين قبل بضعة أشهر بعد عفو عام، لم يعنِ (كما كان واضحاً) عدم إمكانية زجّ آخرين، بل التمهيد لذلك. فوجود صحافيَّين مشهورَين يجعل عملية سجن المعتقلين ذات ثقل أكبر، ومطالبتهم بالحرّية أكثر قابلية للتأثير، ومَن دونهم مجرّد أرقام لا تكترث الجهات الأمنية بتراكمهم، وهذا ما فعلته خلال أسابيع قليلة.

في الأسبوع الأول من مارس/ آذار الحالي، الذي أُلقي فيه القبض على طفلة مع أسرتها، لتُعاقب بجرم قريبها المعارض المقيم في الخارج، صدر الحكم على المومني. وتتواصل محاكمة الصحافية لبنى فلاح لأنها رافعت عن الصحافيين المفرج عنهم أخيراً، ولم يخطر ببالها أنها ستأخذ مكانهم، وأن بال الأمن العام ليس طويلاً ليغفر مرَّتَين للصحافي المسجون وللصحافي الحرّ... فالحيّز يضيق، والسجون تتّسع.

والتّهم التي تتفتّق من ذهن القبضة الأمنية فاقت السوريالية والتجريبية، لتصل إلى الواقعية السحرية، فالمتّهم بإثارة القلق بعد احتجاجه على وضعية ضحايا الزلزال، الذين بقوا تحت رحمة الثلوج بعد تخلّي الدولة عن مسؤولياتها بإيوائهم، حوكم بثلاثة أشهر، ثمّ تمّ تدارك الأمر ليكون عبرةً لمن اعتبر بتمديد مدّة السجن إلى سنة. كيف، ولماذا؟... لا داعي لأن نفهم، ولا داعي لحرّية التعبير، ولا داعي للمطالبة بأقلّ الحقوق، ما دام أن الدولة لم تتكرّم بها. وهل يفهم الشعب أكثر من الدولة؟ كفى نمردةً وجحوداً، الدولة تعرف مصلحتنا ومصلحتها، وعلينا الصّمت إلى أن يطلع الصباح من جلباب هذا الليل الطويل.

عائشة بلحاج
عائشة بلحاج
عائشة بلحاج
رئيسة قسم الثقافة في "العربي الجديد"، صحافية وشاعرة مغربية.
عائشة بلحاج