بماذا نفاخر سوى بهذا الخواء

بماذا نفاخر سوى بهذا الخواء

05 ديسمبر 2020

(حاتم المكي)

+ الخط -

تفاخر العرب في العصر الجاهلي بأحسابهم وأنسابهم، وقبائلهم وعشائرهم، إذ كان الإنجاز الوحيد للفرد انتماءه لمجموعة بشرية (قبيلة أو عائلة)، تملك تاريخا من الانتصار في الغزوات، وثروات كثيرة تحمي سمعة القبيلة. سجّل الشعر العربي الجاهلي كثيرا عن هذا. وكانت القصائد الطويلة، ومنها المعلقات، بمثابة تسابقٍ في التفاخر بالانتماء إلى قبيلة ما، وبأنساب تلك القبيلة، قبل أن يواصل الشاعر قصيدته في مواضيع أخرى. ولم يختلف الأمر كثيرا في العصور اللاحقة، إذ ظل الفخر بالنسب والانتماء قائما، لأن النظم الاجتماعية والاقتصادية بقيت كما هي، ولم تطرأ عليها تغيرات كثيرة، لتغير من الإرث الجمعي لثقافة النسب والانتماء. بمعنى آخر، كان لهذا النوع من الفخر ما يبرّره، إذ إن قيمة الفرد من قيمة قبيلته وعائلته، هي التي تحميه وتؤمّن له حياته، هي السلطة القوية التي، فعليا، تبسط حمايتها على من ينتمي لها، وتثأر لمن يتعرّض منهم لأي محاولة إذلالٍ من آخرين خارج حدود هذه السلطة، وهي أيضا، السلطة الاقتصادية التي تؤمن لأبنائها حياة مستقرّة، وتحميهم من الفاقة والجوع والنهب. 

كان للفخر بالنسب والعائلة أسبابه المبرّرة والمنطقية، قبل أن تتغير الأسباب، بتغيير النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، بعد نشوء الدول، وتحوّل أفراد القبائل إلى مواطنين في وطن كبير يجمعهم ويساوي بينهم في الحقوق والواجبات، أو على الأقل هذا ما كان يجب أن يكون عليه الحال في بلادنا، منذ بداية تحولها إلى (أوطان)، بيد أن الأمر لم يحدث هكذا، لم تتحوّل بلادنا إلى أوطان بما تعنيه كلمة الوطن، ولم نصبح مواطنين، إذ ما إن تخلصت بلادنا من الاحتلالات، في العصر الحديث، حتى ابتُليت بأشكال حكم ونظم استبدادية وقمعية وفاسدة، حولت مفهوم الوطن من قبيلةٍ إلى مزرعة، والمواطنين إلى رعايا أجراء، لا مساواة ولا عدالة بينهم، لا في الحقوق ولا في الواجبات، ولا في أي شيء. صار الوطن هو النظام، وأركان النظام، من الدائرة المقرّبة (العائلة ومستفيدو الفساد والاستبداد والمتملقون)، صار لهؤلاء حق منح صكوك الوطنية والانتماء لأبناء الوطن، وحق الاتهام والتجريم والتكفير بناء على مصالحهم ومصالح أسيادهم في النظام، ترافق هذا مع سلسلةٍ من الهزائم على المستوىات، العسكري والسياسي والسيادي، وعلى المستوى التحرّري الشعبي، مضافا إلى ذلك تراجع مهول في مستويات المعيشة، وشروط الحياة الكريمة، وانهيار شبه كامل للطبقة الوسطى، واستخدام الأنظمة حلفاءها من رجال الدين والدعاة والمؤسسات التابعة لهم، وتسهيل انتشار أفكارهم الرجعية، بما يكفل بقاء الشعوب مغيبة تماما، بحيث تنشغل بالتحليل والتحريم عن بؤسها الاجتماعي والاقتصادي، فلا تطالب بحقها في الوطن، ولا تعرف عن المواطنة سوى كلامٍ يقال في الخطابات الرسمية.

هذا التوالي في الهزائم الجمعية والفردية، غيب الهوية الوطنية تماما، لصالح هوياتٍ أكثر ضيقا، وأعاد إلى الوعي الجمعي ما كان مختبئا في التاريخ، فصار الانتساب إلى مجموعةٍ ما (عائلة، عشيرة، مذهب) والتفاخر بهذا النسب، بوصفه الهوية التي تحمي وتقي من الأخطار، بعد أن فقد الفخر بالانتماء الوطني أية قيمة له، حيث لا قيمة أصلا للمواطن إن لم يكن من ضمن الدائرة المحيطة بالنظام، ولأن النجاحات والإنجازات الفردية التي يمكن للفرد أن يفاخر ويباهي بها، بوصفها قيمةً مضافةً لإنسانيته وكينونته، هي أيضا غير مقدّرة ولا قيمة لها لدى الأنظمة، (لا قيمة للإبداع ولا للفكر في بلادنا، القيمة فقط هي للمال وأصحابه)، فإن الفخر بالانتماءات التي تحدُث مصادفة: (أن يلد الإنسان لدى عائلة تنتمي إلى مذهب أو دين ما هو شيء له علاقة بالمصادفة، لا بالاختيار، ولا بالمجهود الشخصي)، قد عاد ليصبح هو السائد في بلادنا. أعادتنا الهزائم إلى منظومة القبيلة، وإلا ما معنى أن يفاخر الفرد في القرن الحادي والعشرين بانتمائه إلى نسب عائلة ما؟ أين إنجازه الشخصي في هذا النسب والانتماء؟ ما معنى أن يقول أو يكتب شخص في هذه الأيام، وهو يقيم في بلد أوروبي يمنحه كل حقوق المواطنة أنه "سنّي وأفتخر" أو "علوي وأفتخر" أو "أفاخر بمسيحيتي"، لولا تراكم الهزائم في لاوعيه الجمعي والفردي، إلى حدّ البحث عن أي مجموعة تمنحه وهم الحماية؟! نحن نعيش في حالةٍ مهولةٍ من خواء نفسي زادته هزيمة الربيع العربي الذي كان فرصة استثنائية لاستعادة هوية المواطنة المفقودة، والتي يبدو أنها ستحتاج زمنا طويلا آخر لاستعادتها.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.