بلا تعليق: مشاهد رمضانية من سورية

بلا تعليق: مشاهد رمضانية من سورية

23 ابريل 2022
+ الخط -

فيديو يُظهر رجلًا من دمشق، يبدو، من خلال المكان الجالس فيه، أنه كان مقتدرًا مادّيًّا، يتحدّث بحرقة موجعة عن "الجوع" في رمضان، يقول إن الخضار غالية، وإن اللحوم والدجاج صارا من الماضي، بعيدين عن متناول أيديهم وتفكيرهم، وإن زوجته قالت له إنهم لا يفرقون عن "الأبقار" فهم أكلوا في الأمس برغلًا محمّصًا مطبوخًا بلا زيت أو أي مادة دهنية، "برغل حاف" في لغة أهل الشام، قالها والغصّة تذبح حباله الصوتية فيخرُج الكلام متقطّعًا مبحوحًا. كان يستعرض مثل الذاهل، وكأنما يحدّث نفسه، أسعار مواد طعام هي في الأساس أركان طعام الفرد السوري العادي، الخضار والزيت واللبن والدجاج، أمّا الفواكه فلم يذكرها، ربما صارت من المستحيلات.

تطالعنا، في الوقت نفسه، على "يوتيوب" حلقات رمضانية لبرنامج تقدّمه أشهر صحيفة موازية للصحف الحكومية السورية تحت عنوان "فطورك علينا"، تنزل الكاميرا رفقة مذيعة شابّة فائقة الحيوية، ولديها مهارة في الحديث والتواصل مع الآخرين، إلى أسواق المدن السورية وتنتقي أفرادًا، رجالًا أو نساء، ممّن يتسوّقون مواد الطعام لأجل إفطارهم في رمضان، تسألهم عن "طبختهم" لإفطار اليوم، ثم تدعوهم إلى الإفطار على حساب الصحيفة، بأن ترافقهم في الشراء وتدفع للباعة ثمن ما يشترونه، وتعبّر عن الرغبة في التعرّف على الأسعار، وكأن الأسعار سرّية ويجهلها السوريون.

صار رغيف الخبز الشاغل الأساسي للمواطن السوري، وملء البطن به صار أقصى طموح يستطيع الحلم به

في التجوال على الباعة، سوف يُذهل المتابع من كلفة "طبخة" لوجبة واحدة، وهي الإفطار هنا، باعتبار الوقت شهر صيام، لأسرةٍ من أب وأم وأربعة أولاد، إذ إن سعر كيلوغرام من اللحم الأحمر يتراوح بين 28 ألف ليرة سورية و35 ألف ليرة، ويقارب سعر كيلو صدور الدجاج 20 ألفًا، كيلو الرز بين الثلاثة آلاف والتسعة آلاف، أوقية البهارات تفوق الأربعة آلاف، الفاصولياء الخضراء أكثر من عشرة آلاف، أمّا الزيت النباتي "دوّار الشمس"، المادة العزيزة حاليًّا حتى في أوروبا، فمتوفر في السوق السوداء فقط وبثمن 14 ألفًا لليتر الواحد. ليست المقالة بصدد عرض لوائح الأسعار، إنما هذه نماذج من حصيلةٍ جمعتْها المذيعة الحيويّة عن راهن الأسواق، باستعراضٍ جارح ومهين لكرامة الشعب الذي صار رغيف الخبز شاغله اللحظي، وملء البطن به صار أقصى طموح يستطيع الحلم به، فلو عملنا حسبة بسيطة نرى أن وجبة الإفطار تكلّف الفرد ما يتراوح بين السبعين والمائة ألف ليرة سورية، يعني راتب جامعي لشهر كامل، فكيف يعيش هذا الشعب المنتهك المنهك؟

كانت الجولة في الحلقة التي شاهدتها، وها أنا أتابع باقي الحلقات، في حمص، المدينة التي طالما لبسها لقب "أم الفقير"، والتي كانت تحفظ كرامة أبنائها وتستر حاجتهم وتأبى أن ينام واحد من أبنائها مع بطن فارغة، حمص ليست أم الفقير فقط، بل أمّ الكرم والأعمال الخيرية المستورة. ولأنها هكذا فإن أحد الباعة الذين مرّت بهم الكاميرا في تسجيلها الاستعراضي وتوثيق "تفضّلها" على الناس، قال للمذيعة التي أخبرته إن الصحيفة تقدّم هذه المبادرة وتقدّم الإفطار على حسابها: نحن أيضًا نقوم بعمل الخير، إنّما في السرّ ولا نجاهر به، لكن اضطرّتني مبادرتكم العلنيّة هذه على القول، لذلك سأساهم بالمبلغ المترتب، ولن آخذ إلّا 15 ألفًا، كانت الفاتورة 32.

كلّما انحدر الإنسان في سلّم الفقر، تقلّصت طموحاته بالنسبة إلى حاجات الحياة، وازدادت العناصر التي يُدخلها في سلّم الرفاهية التي يستغني عنها صاغرًا

المخمصة في القواميس العربية هي خلاء البطن من الطعام، والجوع الشديد، وخَمُصَ البطن ضَمُرَ، والفاقة هي الفقر والحاجة وضيق الحال، وكلّما انحدر الإنسان في سلّم الفقر، تقلّصت طموحاته بالنسبة إلى حاجات الحياة، وازدادت العناصر التي يُدخلها في سلّم الرفاهية التي يستغني عنها صاغرًا، بالرغم من أنها أساسيّة بالنسبة إلى الإنسان، خصوصا في عصرنا الحالي، إلى أن تصل الفاقة به إلى حدّ "المخمصة". يحضرني خبرٌ سمعته في إحدى المحطّات الإذاعية منذ سنوات، وهو خلاصة تجربة معهد متخصّص بالصحة الجسدية والروحية والعقلية للأطفال، موضوعها بيان العلاقة بين الراتب الغذائي وما يُدعي "الحركية" عند الطفل، فهنالك أطفالٌ مفرطو الحركيّة، وآخرون ناقصو الحركية، ولكلّ من الحالتين أسبابها المتنوّعة، تبيّن، في النهاية، أن الأطفال الذين يتناولون طعامًا "متوسّطيًّا"، أي ينتمون إلى البيئة المتوسطية، كانوا أكثرهم توازنًا، والسبب هو الغذاء المتنوّع الغني بالخضار والفواكه واللحوم والأسماك، وهذا تابع بالدرجة الأولى إلى تعدّد البيئة وتنوّعها في هذه البلدان، والتي تنتمي إليها سورية، لكنها اليوم لم تعد كذلك.

ما جاء أعلاه من المشاهد في الشارع السوري، بين رجل مقتدر تجاوز الستين عاما، عاش حياة كانت في مأمن من الاعتداء على كرامته كما يحصل معه اليوم، وآخرين تلتقطهم كاميرا استعراضية، فتفضح فاقتهم وتقدّم أصحابها أو من هم وراءها فاعلي خير، يتصدّقون على أفرادٍ يمكن عدّهم على الأصابع، من بين ملايين من الشعب ينحدرون نحو الفاقة والمخمصة، أقول: ما استُعرض أعلاه لست في وارد تفنيده أو تحليله أو الإشارة إلى أسبابه ودراستها، فهي تحتاج مراكز أبحاث ومتخصّصين في علوم السياسة والاجتماع والاقتصاد والإدارة والحروب وغيرها الكثير، لكنّني أسلّط الضوء مرّة أخرى، تضاف إلى مئات آلاف من المرّات التي يقوم بها كثيرون غيري، على واقع واحدٍ من شعوب هذه المنطقة التي ابتليت بأشرس النكبات في التاريخ، أمام أعين العالم، حتى صار الشعب السوري مضرب مثل في واقعه الحالي، بل استهلّ تقريرٌ إخباري عن الغزو الروسي لأوكرانيا، في إحدى المحطات، الكلام بكلمتين: روسيا/ سوريا، تعبير مختصر بليغ عمّا يقع في أوكرانيا بإحالته إلى النموذج السوري، وباعتبار أن الفاعل واحد.

الشعب السوري يعيش اليوم في الفاقة القصوى، ليس في مناطق النظام فحسب، بل أيضا في كل مناطق سلطات الأمر الواقع

يكفي القول إن الشعب السوري يعيش اليوم في الفاقة القصوى، ليس في مناطق النظام فحسب، بل أيضا في كل المناطق التي تديرها سلطات الأمر الواقع، وهنالك مشاهد عديدة على "يوتيوب"، وأن الغالبية من الشعب تعيش على المساعدات التي لا تكفي أمام هذا الانحدار الشديد في مستوى المعيشة والكلفة الباهظة التي تحتاجها الحياة في أقلّ ضروراتها، باتت معيشة أسرة من أربعة أفراد تحتاج ما يفوق المليون ليرة لتأمين مفردات عيشها في الحد الأدنى، بين طعام وفواتير وضرائب ترتفع باطراد، في وقتٍ لا يتجاوز متوسط الرواتب المائة الف ليرة، فكيف يتدبّر السوريون معيشتهم؟ وهل المساعدات التي تصل إلى شريحة منهم من الخارج، أو مساعدات الجمعيات الخيرية "الأهلية"، أو التي تأتي باسم الشعب السوري، تكفي من أجل حماية حياة الأفراد، وبناء جيلٍ غير مصابٍ بفقر الدم وفقر المخيّلة المترتب عليه؟ شعب بلا كهرباء ولا تدفئة ولا خدمات، يعاني حتى في الوصول إلى أماكن عمله، لقلّة وسائل النقل بسبب عدم توفر المحروقات، وارتفاع أجور النقل، وفي الوقت ذاته، محروم من ممارسة أبسط طقوس الإيمان والاحتفال به، شهر رمضان وعيد الفطر، والصيام الكبير وعيد الفصح بالنسبة لمسيحيّي سورية، ثم تصوّر بعض الجهات "أعمالها الخيرية"، في استعراضٍ رخيصٍ ومهينٍ لكرامة الناس، في الوقت الذي لا تقدّم أكثر من وجبة وحيدة لأسرٍ عديدة ينتهي في نهاية شهر الصوم بعدد يتراوح بين المائة والمائتين، من ملايين يرزحون تحت ثقل حياةٍ لا ترحم من العوز والفقر والجوع حدّ "المخمصة".

من مهازل المصادفات أن إحدى الحلقات كان مكتوبا تحتها، كإشهار لها: "فجورك علينا"، فهل هناك ما يصف الموقف والبرنامج بدقة ودلالة أكثر؟ حقيقة هنا فجورٌ فاق التصوّر، فيما يُمارس على هذا الشعب.