بكين – موسكو .. زواج مصلحة

بكين – موسكو .. زواج مصلحة

02 مارس 2022

الرئيسان الروسي بوتين والصيني شي جين بينغ في بكين (4/2/2022/فرانس برس)

+ الخط -

لم يكن البيان الصيني الروسي الذي صدر عقب قمة الرئيسين الصيني، شي جين بينغ، والروسي، فلاديمير بوتين، في بكين يوم 4 الشهر الماضي (فبراير/ شباط) بياناً عادياً، بل كان "ثورياً" بما انطوى عليه من مواقف ومطالب تطيح النظام الدولي القائم، بقواعده القانونية وقيمه الليبرالية، وتؤسس لبديل متعدّد الأقطاب، يحتل فيه النظامان السلطويان موقعين ونفوذين كبيرين، ويشركهما في إدارة الأزمات الإقليمية والدولية على قدم المساواة مع الولايات المتحدة، فالبيان، الذي جاء في 5300 كلمة، رفع البطاقة الحمراء في وجه الولايات المتحدة والنظام أحادي القطبية الذي تقوده، وحدّد الملفات التي عليها تغيير مقاربتها لها: تايوان والمطالب الأمنية الروسية، فلا تحالفات أمنية جديدة ولا توسيع لعضوية حلف الناتو. واعتبار ذلك قرينة صريحة على قبولها تغيير قواعد النظام الدولي، والانخراط في مفاوضات لصياغة البديل أو الانخراط في مواجهة صفرية.

لقد حدّد البيان حجم (ومستوى) الاتفاق على التعاون بين الدولتين، من التعاون الأمني إلى الفضاء والإنترنت والتغيرات المناخية مروراً بالذكاء الاصطناعي، فـ "لا حدود للصداقة"، و"لا توجد مجالات ممنوعة على التعاون"، وفق البيان، فالاتفاق الجديد الذي تجاوز معاهدة الصداقة بين الدولتين الموقّعة عام 2001، شراكة استراتيجية "غير مسبوقة"، وفق الرئيس الروسي، و"سيترك آثاراً بعيدة المدى على الصين وروسيا والعالم"، وفق الرئيس الصيني. وقد تضمّن البيان دعماً مباشراً للرئيس الروسي في مواجهته المفتوحة مع الولايات المتحدة وحلف الناتو بشأن أوكرانيا، وتعهداً بالوقوف إلى جانبه في مطالبه الأمنية، والتزاماً بدعمه إذا نفّذ الغزو، ومساعدته على تحمّل العقوبات الاقتصادية القاسية التي تخطّط الولايات المتحدة وحلفاؤها لفرضها. وهو ما أكّده وزير الخارجية الصينية، وانغ يي، بالمطالبة بمعالجة مظاهر القلق الروسي بشأن تمدّد "الناتو"، واصفاً إياها بالمشروعة؛ مع دعم روسيا لسياسة الصين الموحدة، التي ترى أنّ تايوان جزء من الصين ومعارضة أيّ شكل من الاستقلال.

شهدت العلاقات الروسية الصينية، العسكرية والاقتصادية، نمواً كبيراً في العقدين الأخيرين، على خلفية الرد على الموقف الأميركي

شهدت العلاقات الروسية الصينية، العسكرية والاقتصادية، نمواً كبيراً في العقدين الأخيرين، على خلفية الرد على الموقف الأميركي، الذي وضعهما في وثائق أمنه القومي في خانة الأعداء المهددين للأمن القومي الأميركي، وتدخله في شؤونهما الداخلية، عبر ترويج القيم الليبرالية ومتابعة انتهاكات حقوق الإنسان فيهما، وتهديده طموحاتهما عبر العمل على تقييد تحركاتهما السياسية والعسكرية، والحدّ من نفوذهما الإقليمي والدولي، بنشر موارد عسكرية ضخمة في المحيطين، الهندي والهادئ، اعتراضاً على مطالب الصين في بحري الصين، الجنوبي والشرقي، وتشكيل تكتلات أمنية وسياسية في الإقليم، تحالف "أوكوس" مع المملكة المتحدة وأستراليا والحوار الأمني الرباعي "كواد" مع اليابان والهند وأستراليا، وطرح مشروع غربي، مبادرة "إعادة بناء عالم أفضل" التي أطلقتها مجموعة الدول السبع، بديلاً لمبادرة الحزام والطريق، تقديم مساعدات للدول الفقيرة والنامية، لتطوير بنيتها التحتية والخدمية والاقتصادية، بالنسبة للصين، وإدماج أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) بطريقةٍ عملية عبر إشراك قواتها في التدريبات والمناورات العسكرية، ومدّها بالأسلحة المتطورة ودعمها اقتصادياً، بالنسبة لروسيا، وقد تعدّدت التدريبات العسكرية الروسية الصينية في البحر والبر، والقيام بدوريات مشتركة وإجراء مناورات بحرية في المحيطين، الهندي والهادئ، بمشاركة آلاف الجنود وعلى مساحة واسعة.

وكان معهد البحرية الأميركي قد أشار، في تقرير له العام الماضي، إلى تتابع المناورات العسكرية بين قوات الدولتين وتعقيدها ومداها الجغرافي المتزايد بشكل مستمر، واعتبر امتداد أراضيهما في آسيا وأوروبا مع امتلاكهما أسلحة نووية يجعل تحالفهما بمثابة تغيير لقواعد اللعبة عسكرياً ودبلوماسياً، كما بيعت أسلحة روسية متطورة للصين. وهذا إلى جانب تنامي التبادلات التجارية وتوقيع عقود طويلة الأمد بمليارات الدولارات في مجال الطاقة لاستيراد كميات كبيرة من النفط والغاز الروسيين، ومد أنابيب لنقلهما مباشرة إلى الأراضي الصينية.

تسعى الولايات المتحدة إلى فصل روسيا عن الصين، وتتعامل الأخيرة مع الموقف بدعم مطالب روسيا الأمنية من أجل تشتيت القوة الأميركية

وقد ترتّب على التوترات والمواجهات السياسية والدبلوماسية مع الولايات المتحدة حول ملفات جيوسياسية وجيوستراتيجية توافق روسي صيني على خطورة النظام الدولي القائم بأسسه الغربية، وسيطرة الولايات المتحدة على قواعد عمله وآلياته التنفيذية وتوافقا على ضرورة مواجهته وتغيير أسسه وقواعد عمله، وإقامة نظام دولي بديل متعدّد الأقطاب.

اعتبرت قراءات غربية البيان الصيني الروسي تحدّياً سياسياً وعسكرياً للنظام الدولي القائم؛ وخطّة واسعة لمواجهة الولايات المتحدة بوصفها قوة عظمى، وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، كحجر أساس للأمن الدولي والليبرالية الديمقراطية؛ فـ "لا يوجد مقاس يناسب الجميع"، و"موسكو وبكين هما أنجح الديمقراطيات"، بحسب البيان، وتعهدا بالوقوف في صفٍّ واحد في مواجهة القواعد والقيم الغربية. واعتبرته، القراءات، في فحواه وتوقيته، عهداً جديداً في النظام الدولي، يضع الولايات المتحدة وحلفاءها أمام منعطف رهيب؛ ونقطة تحوّل جديدة في حربٍ باردةٍ جديدة.

غير أنّ قراءةً للعلاقات الصينية الروسية خارج اللحظة السياسية الراهنة ومستدعياتها، إن على صعيد التحرّك الأميركي لاحتواء الصين وحماية تايوان من اجتياح صيني محتمل، أو على صعيد تمدّد حلف الناتو نحو الحدود الغربية لروسيا، عبر ضم مزيد من دول شرق أوروبا للحلف، خصوصاً أوكرانيا وجورجيا، ونشر عتاد عسكري متطوّر في هذه الدول، والتي، وحدت اللحظة السياسية الراهنة موقفهما وعداءهما المشترك للولايات المتحدة، وفرضت عليهما تبادل التأييد والدعم في هذين الملفين الساخنين، تقود، القراءة، إلى وجود تباين في الرؤية وتعارض في المصالح، إذ تنطلق الصين من ضرورة الحفاظ على الاستقرارين، الإقليمي والدولي، لما لذلك من تأثير على مشروعها "الحزام والطريق" ومصالحها التجارية مع دول وسط آسيا وأوروبا، وتعارض التدخلات الخارجية في شؤون الدول، ما يجعلها ترى في تكتيكات الرئيس الروسي وعسكرته الدبلوماسية وتصعيده التوترات الإقليمية والدولية مسّاً بالاستقرار، وبالمصالح الصينية بالتالي، وخرقاً لمبدئها في معارضة التدخلات الخارجية.

تنطلق الصين من ضرورة الحفاظ على الاستقرارين، الإقليمي والدولي، لما لذلك من تأثير على مشروعها "الحزام والطريق" ومصالحها التجارية

صحيحٌ أنّ الصين تستفيد، في ظل التوتر القائم مع الولايات المتحدة بشأن الأدوار والأوزان، وواجهته ملف تايوان، من التحرّكات العسكرية الروسية لمشاغلة الولايات المتحدة وحرف الاهتمام الأميركي عن الاتجاه نحو آسيا وتطويقها وعرقلة خططها الجيوسياسية والجيوستراتيجية، وترى في بوتين شريكاً قادراً على زعزعة استقرار التحالف الغربي، ودفع الولايات المتحدة إلى وقف التركيز على احتوائها، إلّا أنّها لا تريد دفع الأوضاع مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي نحو قطيعةٍ شاملةٍ وحرق كلّ المراكب معهما، وخسارة التبادلات التجارية الضخمة، خصوصاً إذا ترافقت القطيعة مع عقوباتٍ لها تأثير كبير على الشركات الصينية، فأولويتها مطلقة النفاذ إلى الأسواق، لذا لا تريد لدعمها روسيا أن يلحق ضرراً بمصالحها الخاصة، فمصالحها مع استقرار سياسي وأمني إقليمي ودولي. وهذا ما دفعها إلى اعتماد سياسة النأي بالنفس والحياد، وتفضيلها حلّ الخلافات بالطرق الدبلوماسية، وتأكيد وزير خارجيتها، الذي انتقد تمدّد "الناتو" نحو حدود روسيا الغربية، على احترام سيادة أوكرانيا وحماية هذه السيادة، وقوله، في مكالمات هاتفية مع دبلوماسيين غربيين، إنّ "الصين تتابع تطور الأزمة الأوكرانية، والوضع الحالي أمرٌ لا تريد الصين رؤيته". وحثّ الرئيس الصيني، شي جين بينغ، الذي وقّع قبل أيام على البيان الصيني الروسي الذي ينطوي على دعم لموسكو، الرئيس الروسي، فلاديمر بوتين، في مكالمة هاتفية معه على حلّ الأزمة مع أوكرانيا من خلال المحادثات، ودعوة سفيرها لدى الأمم المتحدة، تشانغ جون، إلى ضبط النفس وحلّ الخلافات بالطرق الدبلوماسية، وإيقاف مصرفين صينيين، البنك الصناعي التجاري الصيني وبنك الصين، تمتلكهما الدولة، إصدار اعتمادات مالية بالدولار الأميركي لشراء سلع روسية جاهزة للتصدير، خير دليل على طبيعة توجهاتها السلمية، فحروب بوتين المحتملة تؤثر مباشرةً على وصول النفط والغاز من آسيا الوسطى إليها عبر الأنابيب؛ وتعرقل سلاسل التوريد وانتقال السلع. فالصين لا تشجع الأسلوب العدائي الذي تتبعه روسيا في الملف الأوكراني، ولا تؤيد أيّ عدوان أو تدخل من أيّ دولة في شؤون دولة أخرى، سبق ووقفت خلف انسحاب القوات الروسية من كازاخستان، فقد جرى الانسحاب، بعد طلب وزير خارجية الصين ذلك مباشرة من وزير خارجية روسيا، فـ "بوتين يمثل صداعاً كبيراً لبكين" وفق للزميل الأول لدراسات الصين في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، كارل مينزنر. وهذا بالإضافة إلى رغبة الصين "في النهاية في علاقات جيدة مع الولايات المتحدة" وفق قول وانغ هوياو، رئيس "مركز الصين والعولمة"، وهو مركز أبحاث مقرّه بكين، ويقدّم المشورة للحكومة. وقد تأكد ذلك في تمييزها موقفها عن الموقف الروسي بامتناعها عن التصويت في جلسة مجلس الأمن الخاصة بمناقشة الأزمة الأوكرانية على مشروع قرار يدين الغزو الروسي لأوكرانيا، حين استخدمت روسيا حق النقض (الفيتو).

في وقتٍ تسعى الولايات المتحدة لفصل روسيا عن الصين، تتعامل الأخيرة مع الموقف بدعم مطالب روسيا الأمنية من أجل تشتيت القوة الأميركية، لكن من دون التزام صلب يلزمها بإرسال قوات لمساندة الغزو الروسي، فثمّة حدود لما يمكن، وما ترغب، الصين القيام به من أجل روسيا في ضوء عوامل رئيسية: التجارة والعلاقات المالية مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. فمن شأن دعم العدوان الروسي بشكل علني أن يهدّد اتفاقاً استثمارياً رئيسياً، تحاول بكين التوصل إليه مع الاتحاد الأوروبي، والتعرّض لعقوبات أميركية ثانوية مدمرة، وتتعامل مع الغزو كاختبار لاكتشاف مستوى الرد الأميركي، واعتباره مقياساً لردّه المحتمل على معركتها الخاصة بشأن تايوان، وفرصة لإضعاف روسيا منافستها الجيوسياسية في وسط آسيا، والمحصلة النهائية للغزو وانعكاساتها على المعادلتين، الإقليمية والدولية.