بعد استهداف قطر... الخليج وأميركا
دخان يتصاعد من مبنى سكني في الدوحة بعد استهداف إسرائيل قادة حماس (9/9/2025 فرانس برس)
بعد العدوان الإسرائيلي على قطر، قال الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قولاً ملتبساً: "لستُ سعيداً بما جرى". لم يُدن الاعتداء، ولم يُوبّخ حليفه المقرّب نتنياهو، بل اكتفى بهذا القول الذي رآه بعضهم تعبيراً موارباً عن خيبته لا من العدوان، وإنما من أنّ قصف مقرّ لحركة حماس في الدوحة لم يحقّق هدفه باغتيال قادتها المجتمعين فيه، للتشاور في مقترحه الذي طرحه أخيراً لوقف إطلاق النار في غزّة، المصحوب بتهديد فجّ فحواه أنّها الفرصة الأخيرة أمام الحركة. ورغم "التفاهم" بين تل أبيب وواشنطن على "تبرئة" الأخيرة من مسؤولية الهجوم، حيث استخدم ترامب ونتنياهو العبارات نفسها حول مسؤولية إسرائيل الكاملة عما جرى، إلا أنّ هناك انطباعاً قويّاً أنّ هجوماً بهذا الحجم ما كان ممكناً بدون ضوْء أخضر، أو على الأقل غضّ طرف، أميركي، فلا يمكن أن يمرّ من دون علم واشنطن، نظراً إلى وضع قطر واستضافتها قاعدتي العديد والسيلية.
لو وضعنا جانباً التصريحات الدبلوماسية الميّالة إلى التهدئة وعدم تصعيد الموقف سياسياً، يعيد ما جرى إلى الواجهة النقاش الجديّ بشأن علاقات واشنطن لا مع قطر وحدها، وإنّما مع كل دول مجلس التعاون الخليجي، ولعلّ أبلغ تعبير عن ذلك جاء على لسان مديرة برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، سنام وكيل، في مركز "تشاتام هاوس" البحثي في لندن، حين قالت إنّ الضربة الإسرائيلية تمثل "جرس إنذار للمنطقة كلها، حيث تُعاد صياغة حدود الشراكات والتحالفات التقليدية". وبشكل عام تتحدث دوائر غربية، سياسية وبحثية وإعلامية، عن اهتزاز الثقة القطرية، والخليجية عامة، بالولايات المتحدة حليفاً يعتدّ به عند الشدائد، ومدى مصداقية الحماية الأميركية المفترضة.
وينقل موقع "دي. دبليو" الألماني عن دبلوماسيين وخبراء أجانب قولهم إنّ "ما جرى مع الدوحة بضوء أخضر أميركي يبعث رسالة واضحة إلى كلّ المنطقة، ملخصها أنْ لا ثقةَ أو اطمئنانَ للحليف الأميركي في أية حال"، فواشنطن مستعدّة لأن تطلق يد إسرائيل في أي وقت وفي أي مكان، وهو ما يضع التعاون الخليجي الأميركي بأكمله على المحكّ، فواشنطن في سبيل إرضاء إسرائيل ودعمها في تحقيق أهدافها ستدير ظهرها لمصالح حلفائها في الخليج، ولسيادة بلدانهم في وجه التهديدات الخارجية.
يزيد من اهتزاز الثقة الخليجية بواشنطن، أو هذا ما يجب أن يكون على أيّة حال، أنّ وجود قادة "حماس" في الدوحة، بعد مغادرتهم دمشق إثر اندلاع الاحتجاجات على النظام السابق في مطالع العقد الماضي، ما كان ممكناً لولا تفاهمات دولية وإقليمية، وإسرائيل طرف فيها، فهو ليس وجوداً سرّيّاً، وظلّت الدوحة محطّة مفاوضات دائمة حول الوضع في غزّة، قبل "7 أكتوبر" (2023)، خصوصاً بعده، ما يجعل من الضربة الإسرائيلية أخيراً ليست مجرّد استهداف لقادة "حماس"، وإنما لكلّ تلك التفاهمات.
وينقل الموقع عن باحثٍ آخر في المركز المُشار إليه أعلاه أنّ الولايات المتحدة أثبتت، ليس في هذه المرّة فقط، وإنما في مرّات سابقة أيضاً، أنّها حليفٌ لا يمكن الوثوق به، خليجياً، وعلى دول المنطقة أن تجد بدائل تكمّل علاقتها مع الولايات المتحدة، فالتحالف القائم اليوم مع واشنطن لن يستمرّ كما هو عليه على المدى الطويل، خصوصاً مع تصاعد النزعة الشعبوية في الداخل الأميركي التي يلخصها شعار: "أميركا أولاً".
بنت دول الخليج استراتيجيتها التحالفية مع واشنطن فترة الحرب الباردة على مواجهة ما وُصف بالخطر الشيوعي، ليتحوّل في العقود الماضية إلى مواجهة ما تعدّه خطراً إيرانياً، ولن ندخل في تفاصيل هذا "التعويل" الخليجي على دعم واشنطن، فما يحكم النهج الأميركي، بصرف النظر عمّن يكون قابعاً في البيت الأبيض، جمهورياً أم ديمقراطياً، هو مصالح أميركا، لا مصالح دولنا، وتأمل شعوب المنطقة في أن يكون العدوان الإسرائيلي أخيراً على دولة قطر مُنبهاً جدّياً على أنّ الخطر القادم من إسرائيل هو الخطر الأكبر والجدّي، وأنّ دول المنطقة ليست بمنجاةٍ من الاستهداف، مع تصاعد التغوّل الصهيوني. ومع غياب منظومة أمن عربي موحّدة تشمل الخليج، آن الأوان لأن تعيد دولنا النظر في نهجها، عبر علاقات متساوية مع الأقطاب الدولية الوازنة، وأن تكفّ عن الاعتماد الأعمى على واشنطن، فلا تقتصر الشراكة مع دولٍ مثل الصين وروسيا على الشقّ الاقتصادي التجاري وحده، وإنما تطاول الشقّين الأمني والعسكري، لضمان أن تكون لها مظلّة حماية دولية واسعة.