باغرام مجدّداً... هل تعود أميركا إلى أفغانستان؟
عرض عسكري أفغاني في قاعدة باغرام في ولاية بروان شمال كابول (14/8/2024 فرانس برس)
عاد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى واجهة الملف الأفغاني بتصريحاتٍ لافتةٍ حملت أكثر من رسالة، وفتحت باب التساؤلات بشأن نياته. ففي حديث إعلامي، وصف انسحاب إدارة بايدن من أفغانستان بأنه "كارثة تاريخية"، ليس فقط بسبب الفوضى التي رافقته، بل لأن واشنطن تخلت مجاناً عن قاعدة باغرام الجوية الاستراتيجية، والتي يرى أنه كان يجب أن تحتفظ بها بمثابة رمز للهيبة الأميركية وورقة ضغط على حركة طالبان والصين في آن.
الأكثر إثارة في تصريحاته أنه كشف عن جهودٍ جاريةٍ لاستعادة القاعدة من "طالبان"، من دون أن يوضح طبيعتها أو الأطراف المعنيّة بها، ما يطرح عدة أسئلة حول التوقيت، والدوافع، ومدى واقعية هذا الطرح.
لا يتحدّث ترامب عبثاً، خصوصاً في هذه المرحلة، وتصريحاته بشأن باغرام تخدم عدة أهداف في آنٍ، الهجوم على بايدن وتجديد الاتهامات بسوء إدارة الانسحاب من أفغانستان، الذي ترك أثراً سلبيّاً عميقاً في وجدان الأميركيين، خصوصاً بعد سقوط كابول المفاجئ، إلى جانب سعيه إلى الظهور قائداً حازماً قادراً على إعادة "هيبة أميركا"، ولو عبر العودة إلى ملفاتٍ تبدو محسومة.
من الناحية العملية، تعني استعادة قاعدة باغرام أحد خيارين: إما تدخّلاً عسكرياً مباشراً، وهذا مستبعدٌ سياسيّاً وعسكرياً، أو اتفاقاً تفاوضياً مع "طالبان"، تمنح فيه الأخيرة تسهيلات أو امتيازات أميركية مقابل مكاسب اقتصادية أو اعتراف سياسي. وهنا تتقاطع التصريحات مع تقارير صحافية عن "اتفاق معادن" يجري الإعداد له في كابول، يتيح لشركاتٍ أميركيةٍ استثمار الثروات الطبيعية الهائلة في أفغانستان (خصوصاً الليثيوم والمعادن النادرة)، مقابل تفاهماتٍ أمنيةٍ قد تشمل نوعاً من الوجود الأميركي في مناطق محدّدة، وربما عبر البوابة التقنية أو الاستخباراتية.
قاعدة باغرام ليست مجرّد منشأة عسكرية، إنها رمز استراتيجي لموقع أفغانستان بين الصين وإيران وآسيا الوسطى
تواجه "طالبان" اليوم واقعاً اقتصاديّاً قاسياً، وعزلة دولية، وتحتاج بشدّة إلى الشرعية الاقتصادية والسياسية، وهي تدرك أن الصين وإيران وروسيا ليسوا شركاء استراتيجيين دائمين، بل مستفيدون ظرفيون. وبالتالي، قد تكون فكرة صفقة مع واشنطن، حتى عبر ترامب، مقبولة ضمن حسابات البقاء، سيما إذا شملت تخفيف العقوبات، والاعتراف بشرعية الحكم، إلى جانب اتفاقاتٍ اقتصاديةٍ استثمارية كبرى. وهذا يفسّر جزئياً زيارة مسؤول أميركي إلى كابول قبل أيام، والتي شهدت التوصل إلى اتفاق لتبادل محتجزين، خطوةً رمزيةً تعيد فتح القناة الخلفية التي لم تُغلق تماماً.
قد لا تكون "استعادة باغرام" حرفيّاً على جدول الأعمال، لكن تصريحات ترامب تكشف تغيراً في المزاج الأميركي تجاه أفغانستان، من الانسحاب الكامل إلى العودة الجزئية، ولو عبر الاقتصاد والتكنولوجيا. وقد يعود الملفّ الأفغاني ليصبح ورقة مساومة بين ترامب و"طالبان"، تماماً كما كان قبل اتفاق الدوحة 2020. ولكن هذه المرّة، سيكون الثمن اقتصاديّاً، لا عسكريّاً.
ليست قاعدة باغرام مجرّد منشأة عسكرية، إنها رمز استراتيجي لموقع أفغانستان بين الصين وإيران وآسيا الوسطى. واستعادتها، أو على الأقل العودة إليها بشكل أو بآخر، تعني أن واشنطن لم تنسَ أفغانستان، ولا حدودها مع منافسيها الكبار.
قد لا تكون "استعادة باغرام" حرفيّاً على جدول الأعمال، لكن تصريحات ترامب تكشف تغيراً في المزاج الأميركي تجاه أفغانستان
هناك من يرى في عودة الاهتمام الأميركي، وفي تصريحات ترامب أخيراً، محاولة استباقية لإعادة تموضع واشنطن في آسيا الوسطى، خصوصاً بعد تزايد الحضورين، الصيني والروسي، حيث تبقى أفغانستان بوابة جغرافية مهمّة لأي مشروع احتواء إقليمي أو استعادة نفوذ استراتيجي. ولعل استعادة قاعدة باغرام، ولو سياسيّاً أو اقتصاديّاً، جزء من هذا التفكير الذي يتجاوز "طالبان" نفسها.
قد تحمل تصريحات ترامب، وإن كانت شعبوية في ظاهرها، في طياتها ملامح إعادة تشكيل العلاقة الأميركية ب"طالبان"، على قاعدة جديدة: المعادن بدل الجيوش، والتكنولوجيا بدل الاحتلال. ولكن السؤال الأهم: هل تقبل الحركة أن تعود أميركا من بوابة الاقتصاد، بعد أن خرجت من بوابة الحرب؟