... باستثناء الصين

12 ابريل 2025
+ الخط -

كانت الحرب التجارية التي شنّها دونالد ترمب على الصين متوقّعةً، إنّما ليس بهذا الحجم وبهذا الاندفاع الشرس. وقد حاول الرئيس الأميركي إظهار أن رفع الرسوم الجمركية عن الصادرات الأجنبية إلى بلاده يشمل الأصدقاء والخصوم، غير أن تتالي القرارات الصادرة عنه كشف أنه سيخوض مفاوضات مع 75 دولة بشأن تحديد الرسوم. لكن، باستثناء الصين، (لماذا؟) لأنها ردّت على قراراته بما هو شبيه بها، ولأنها "انتقمت"، وهو أمر مثير للسخرية، فإذا كانت هذه الإدارة تأمل في ألا تصدر من بكّين قرارات انتقامية، فلماذا تدفعها دفعاً إلى اتخاذ هذه القرارات؟

أدركت الصين، منذ البداية، أن ترامب يسعى إلى كسر الندّية مع الاقتصاد الأسرع نهوضاً في العالم، وبينما تؤثر الصين أن تطلق على نفسها مُسمّى "دولة نامية"، فذلك لطمأنة دول الجنوب ودول العالم الثالث بأنها لن تنال معاملةً فوقيةً من بلاد كونفوشيوس، وعلى أن الصين ترفض أن يُتعامل معها، ومن واشنطن بالذات، على أنها تُسلس القياد لغيرها، أو ترتضي بمعاملة دونيّة. وقد فسّر كثيرون مسارعة إدارة ترامب إلى التقارب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فيما يخصّ الحرب على أوكرانيا، وتبنّي الرواية الروسية لهذه الحرب أنها محاولة لإبعاد موسكو عن بكّين، كما فعلت أواسط السبعينيّات (التقرّب من بكّين في عهد نيكسون) لإبعاد بلاد التنّين عن الاتحاد السوفييتي آنذاك، وهو استخلاص لا يُجانبه الصواب، وتنقصه عناصرُ إضافيةٌ منها أن ترامب يروم التخلّي عن العبء الأوكراني، والاستيلاء في الوقت ذاته على الثروات المعدنية لذلك البلد، وأن موسكو لن تجد في أميركا ترامب ما قد توفّره الصين لها من "عمق استراتيجي"، ومن تكنولوجيا متطوّرة يحتاجها الجيش الروسي المنهك، وقطاعات اقتصادية حيوية، في رأسها قطاعا النفط والغاز، اللذان يجدان في السوق الصينية أفضل مجال للتصريف.

لا تضع القيادة الصينية التراجع أمام تحدّي ترامب بين خياراتها رغم صعوبة الوضع في الأمد المنظور

من الواضح أن القيادة الصينية لا تضع التراجع أمام تحدّي ترامب بين خياراتها رغم صعوبة الوضع في الأمد المنظور، فمَن أشهر سيف التحدّي هو المدعو إلى التراجع، وقد يكفي الصين في هذه الآونة، وفي أعين الآخرين، أنها تتمسّك بقواعد التجارة العالمية، ولا تتحدّى أحداً، وأنها تلتزم قواعد التنافس، وليس غريزة الحرب أو منطقاً صفرياً يسلكه تجّار حمقى يتسبّبون بإلحاق خسائر بأنفسهم، في غمرة هوسهم بالتسبّب في خسائر لتجّار منافسين. وبينما يسعى ترامب لأن يعزل الصين عن باقي الدول، باستثنائها من التفاوض معها، فالصحيح أنه لا يعرض التفاوض مع بقية الدول، بل يضعها تحت الضغط، فقد علّق رفع الرسوم 90 يوماً، ولم يتراجع عنها، وكم هو صعب على من يتّخذ إجراءً متهوراً كهذا، أن يُنظر إليه حسن النيّة. ولو كانت هناك حاجة للمراجعة في واقع التجارة العالمية، لكان ترامب دعا إلى التفاوض، من غير أن يستعمل سلاح رفع الرسوم، وبخاصّة أن هناك فرصة لفضّ المنازعات في حال حدوثها. وبينما يتّحد موقف الصين من الرسوم مع مواقف باقي دول العالم، فإن الموقف الأميركي من هذه المسألة لا يجد من يتبنّاه أو يدافع عنه، حتى لدى أصدقاء وحلفاء لواشنطن، فكوريا الجنوبية قد تجد نفسها مهدّدة بعد السابقة الأوكرانية، وفي ضوء إعجاب ترامب بالزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، ها هو يرفع الرسوم فيضيف عاملاً جديداً من عوامل إضعاف الثقة، فيما ساهمت إثارة هذه الأزمة في إضفاء عنصر جديد على الانقسامات داخل المجتمع الأميركي، وهو أمر مرشّح لمزيد من التفاعل، إذ يتعلّق بمستوى معيشة الناس وبوظائفهم وبحياتهم اليومية.

يكفي الصين التزامها قواعد التنافس، لا منطقاً صفرياً يسلكه تجّار حمقى يتسبّبون بخسارتهم في سعيهم إلى خسائر تجّار منافسين

ويسترعي الانتباه في هذه الغضون أن بكين تستخدم في هذه الآونة لغةً سياسيةً ذات ظلال عسكرية في ردّها على إجراءات اقتصادية، حتى إن أنباء تحدّثت عن قرار برفع الجاهزية لدى الجيش الصيني، وتحذير الصينيّين من السفر إلى الولايات المتحدة، وتفسير ذلك أن الصين ترى في نموها الاقتصادي قوّتين، صُلبة وناعمة معاً، فالتطوّر التكنولوجي الفائق والقدرات الصناعية المتنامية تنعكس على القدرات الدفاعية، والنفوذ السياسي و"الثقافي" في العالم يرتبط بالتمدّد الاقتصادي ونوعية المنتجات الصينية، ما يعكس ازدهاراً مماثلاً في الداخل، ونظرة أكثر إيجابيةً للحياة الصينية. وحين يُستهدف الاقتصاد، عبر العبث بقواعد التجارة، فمن الطبيعي أن ترى بكّين في ذلك تهديداً استراتيجياً يُلامس ما اعتبره كثيرون نُذرَ حربٍ عالمية ثالثة، تبدأ بالحرب الاقتصادية، وقد لا تتوقّف عندها. وبطبيعة الحال، فإن مواجهةً عسكريةً بين القوّتَين النوويَّتَين (ولو محدودة) غير واردة، غير أن الأجواء شبه العسكرية والمشاعر الحربية تلقيان بظلالهما على مختلف جوانب العلاقات بين القوَّتَين الاقتصاديَّتَين الأكبر في عالمنا. إلا أن ترامب نجح في إثارة أزمة قائمة على خلط الأوراق والمعادلات، فبينما تقدّم الرجل للتوسّط بين روسيا وأوكرانيا، فإن إشعاله للأزمة مع الصين يُرشّح روسيا لأن تلعب دور الوسيط بين واشنطن وبكّين، وبينما تهتزّ الثقة بين واشنطن والحلفاء الأوروبيين، فإن القارّة العجوز، تجد نفسها مدعوّةً لتعاون أكبر مع الصين، وذلك مع حال العداء تجاه موسكو، والجفاء المتزايد مع ترامب ونائبه جي دي فانس.

يبقى، بعد هذا الإيجاز، أن الأرجح هو تراجع ترامب عن رفع الرسوم على الصين نتيجة وساطات خارجية وضغوط داخلية، وبعد مباحثات بعيدة من الأضواء بين الجانبَين، وإلا سوف يغدو إصلاح الخطأ صعباً إذا ما تُركت التداعيات تتفاعل. علماً أن استجابة الصين للتحدّي، وتمسّكها بالندّية في التعامل، ربّما فاجأتا ترامب، وبعض أركان إدارته، وسواء أُصلح الخطأ (كما هو متوقّع) أم لجأت واشنطن إلى العناد، فالواضح في المحصّلة أن الصين تشقّ الطريق نحو عالم ثنائي القطب تتبوّأ فيه موقع المنافس الأوّل للولايات المتحدة، وهو ما يتطلّب أن تصوغ الصين رسالةً سياسيةً وخطاباً أيديولوجياً يخاطب حكومات العالم وشعوبه، لا حكوماته فحسب، كما جرت التقاليد خلال العقود الثلاثة الماضية.