انقلاب الغرب على نفسه

09 فبراير 2025
+ الخط -

دافع الفيلسوف الألماني هايدغر عن أنّ الوجود هو الزمن. أمّا الفيلسوف ترامب فيبدو أنّه يرى الوجود في المكان أوّلاً، بمعنى إخلائه من سكّانه إذا تعذّرت إبادتهم، والتهامه، كأنّه يلتهم آخر قطعة بيتزا متبقّية في عشاء عائليّ. ذاك فحوى تصريحه يوم 4 فبراير/ شباط 2025، مبشّراً بالسيطرة الأميركيّة الدائمة على قطاع غزّة، بعد تطهيره من الفلسطينيّين، باسم إعادة الإعمار! عيّنةٌ ممتازة من سياسة العربدة، التي تعاود الظهور في مراحل تجديد الكولونياليّة قشرتَها. في مثل هذه المراحل، يتصرّف القائدُ بعقليّة تاجرٍ، ويستخدم خطابَ زعيم عصابة، كلُّ قراراته ابتزاز ومساومة.

أقام الغربُ جاذبيّةَ معسكره على عدد من القيم، منها: حريّةُ الفرد في مواجهة ثغاء القطيع. كرامةُ المواطَنة في مواجهة هوان الرعيّة. حكمُ المؤسّسات في مواجهة عبادة الشخص. العدلُ والمساواة أمام القانون. التداول الديمقراطيّ على السلطة. منظومةٌ ولدت في أعقاب الحرب العالميّة الثانية، واستمرّ الغرب يروّجها طوال حربه ضدّ المعسكر الشرقيّ. إلّا أنّ هذه المنظومة وُلِدت "مُفَرْيَسة". وتَمثّلَ الفيروسُ في الصهيونيّة ومشتقّاتها، التي ظلّت تربك الضمير الكونيّ، وتبتزّ العالم، وتضطرّه إلى الكيل بمكيالين، حدّ نسفِ كُلِّ مُشتَرَك. ويبدو أنّ هذا "الانقلاب" ظلّ يهدر من تحت السطح، خاصّة منذ تفكيك الاتّحاد السوفييتي، حتى جاء هذا الثنائي الجهنّمي (الترامبية المتعجرفة والصهيونيّة المتوحّشة) فصعد إلى العلن.

يستعرض ستيفن ليفيتسكي ودانيال زيبلات، في كتابهما "موت الديمقراطيّة" (كلمان ليفي، 2019)، الوسائل التي يستخدمها الطغاة الطامحون لتفكيك جميع المؤسّسات والأجهزة التي تحمي المواطنين من إساءة استخدام السلطة، وذلك بعد وصولهم إلى الحكم عبر الانتخابات الديمقراطيّة. وتشمل هذه الوسائل: إعادة هيكلة هيئات الرقابة الدستوريّة، تطويع القضاء، إخضاع القوى الماليّة، ترهيب الصحافيّين أو إفسادهم، وتوجيه الإعلام لتبنّي سرديّة الحكومة من دون تحفّظ.

تتيح لك قراءة هذا الكتاب الانتباه إلى أنّ الغرب ليس بصدد الانقلاب على القيم فحسب، بل إنّه ينقلب على نظام الحكم أيضاً ترى بوادر ذلك في أكثر من دولة. كما تراه في نهاية عهدة ترامب الأولى، في موقعة الكابيتول، وها هي ملامحه تتأكّد في بداية عهدته الثانية. يكفي للبرهنة على ذلك أن تتابع بعض أخبار عضده الأيمن إيلون ماسك الذي اشترى دالّته على الرئيس بـ250 مليون دولار، ثمّ شرع في التصرّف برقّة الدبّ في دكّان الخزف، باسطاً سيطرته على عدة وكالات فرديّة، مُغلقاً الوكالةَ الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، وهي أكبر مزوّد للمساعدات الإنسانيّة في العالم، بعد أن اتّهمها بالفساد، والإجرام، والعمالة لليسار الراديكاليّ، مُسيطِراً على مكتب إدارة شؤون الموظفين (OPM) والإدارة العامة للخدمات (GSA)، مدّعياً أنّها نموذج للتطرّف البيئيّ وراديكاليّة الجندر.

ثمّة رائحة مقرفة تنبعث من تحالف الترامبيّة والصهيونيّة، تقترب من النازيّة وتوشك على تخطّيها. ذاك ما يؤكّده المؤرّخ الأميركي روبرت باكستون (1932)، حين يقول إنّه احترز من تسمية دونالد ترامب الرئيس الفاشيّ، خلال عهدته الأولى، لكنه يشعر اليوم بالقلق إزاء تحوّل سلوكه وخطابه. يُعَدُّ باكستون من أبرز الخبراء في الفاشيّة وفي تاريخ أوروبا في منتصف القرن العشرين، وقد يكون من المفيد أن تعود إلى كتابه "فرنسا في عهد فيشي" (لو سوي، باريس. 1973) لأهميّته في تحليل علاقة السياسة الأميركيّة الراهنة وسياسة أفلاكها، بسياسات أوروبا في ثلاثينيات القرن الماضي.

لكن كم يبدو لك هذا كلّه ضئيلاً بالقياس إلى ما يعانيه إنسان غزّة. كم يبدو لك مخزياً أن يسمح قائد أكبر دولة باستغلال جوع الأطفال، وعريهم، وتشرّدهم، لإجبار شعب على القبول بالترانسفير، بمثل هذه السفالة اللاإنسانيّة والدم البارد. كم يوجعك أن يستخفّ بعضهم بالأمر، زاعماً أنّها مجرّد لعبة سياسيّة للضغط على قادة دول المنطقة والجوار، كي يخضعوا لصفقة التطبيع مع الكيان. لكنّك تعلم أنّ حياة الناس ليست لعبة. وأنّ هذه الخطّة تحتاج على الأقلّ إلى ضمان ثلاثة أمور: قبول جميع شعوب المنطقة بالشراكة في جريمتي الإبادة والتطهير العرقيّ. عثور الأنظمة، العربيّة تحديداً، على عشبة الخلود التي تضمن لها البقاء الأبديّ رغماً عن شعوبها. وإمكانيّة الإحساس بالأمن في فم الذئب أو بجوار الضحيّة. هل في وسع الغرب الكانيباليّ أن يضمن هذه الأمور؟ هل يقبل بها غَربُ الأنوار؟ هل يتحمّل وزْرَها العرب؟

شاعر تونسي ومترجم من الفرنسية.
آدم فتحي
شاعر تونسي ... وشاعر غنائي ومترجم من الفرنسية.