انقلاب السودان .. العسكر والإقليم

انقلاب السودان .. العسكر والإقليم

08 نوفمبر 2021
+ الخط -

تأتي التجربة السودانية في سياق أكثر تحدّياً من معظم تجارب بلدان الاحتجاجات في المنطقة. ففي أعقاب اندلاع الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها السودان في عام 2019، وأدّت إلى إزاحة الرئيس عمر البشير، انتهجت القوى الثورية طريق تحوّل بطيء فرضته طبيعة التعقيدات المحلية، بما يضمن عملية انتقال سياسي يحقق نوعاً من الاستقرار الاقتصادي، إلا أن تنفيذ هذه التسوية واستحقاقاتها ما لبث أن وقف حائلاً أمام تثبيت السلطة المدنية، وأدى لاحقاً إلى تجريفها، حيث قاد الفريق أول عبد الفتاح البرهان عملية الانقلاب على الحكومة المدنية، ممثلة برئيس الوزراء، عبدالله حمدوك، وأعلن حل مجلس السيادة وفرض حالة الطوارئ، أعقبته موجة تظاهرات شعبية متواصلة، احتجاجاً على الانقلاب العسكري، ومع تسويق البرهان انقلابه على السلطة المدنية بأنه إجراء ضروري لمنع اندلاع حرب أهلية، فإن هذا المسار الكارثي كان متوقعاً في ضوء بُنية السلطة الانتقالية، واستحقاقات عملية الانتقال السياسي وتربّص قوى الإقليم. وشهدت الأزمة السياسية في مسار السلطة الانتقالية سلسلة انتكاسات، تمظهرت في الصراع على السلطة بين المكوّن العسكري في المجلس السيادي الذي يتزعمه عبد الفتاح البرهان، وكذلك قائد قوات التدخل السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي) من جهة، والقوى المدنية التي تمثلها الحكومة من جهة أخرى، وهو ما قوّض قدرة الحكومة في تنفيذ إصلاحيات اقتصادية جذرية تحسّن الوضع المعيشي للمواطنين؛ فيما منح تعثر نماذج التحولات السياسية في المنطقة، وجديدها التجربة الديمقراطية في تونس، الضوء الأخضر للقوى العسكرية لتقويض الانتقال السياسي في السودان، وتقديم نفسها بديلا وحيدا، فضلاً عن تفضيل القوى الإقليمية نموذج النظام العسكري في بلد فقير يعاني أزمات عديدة، على حكومة مدنية متزعزعة.

التسوية التي لجأت إليها القوى الثورية لاقتسام السلطة مع القوات العسكرية لم تكن ضمانة حقيقية لعدم حدوث أي انحرافاتٍ مستقبلية

تتضمن صيغة التسويات السياسية التي نظمت المرحلة الانتقالية في بلدان الاحتجاجات جذور إخفاقاتها. ففي السودان، شكلت طبيعة السلطة الانتقالية التي أقرّتها "الوثيقة الدستورية" التي وقعت عليها القوى الثورية والقوى العسكرية أحد الأسباب الرئيسة لطغيان القوى العسكرية ثم استيلائها على السلطة، إذ تكونت أجهزة النظام الانتقالي من ثلاثة مجالس: مجلس سيادي ومجلس وزاري ومجلس تشريعي، ولا يمكن فصل صلاحياتها المتداخلة إلا في بيئة سياسية مستقرّة تمتلك إرثا تاريخيا من فصل السلطات، وهو ما يفتقده السودان والدول العربية بشكل عام، ومن ثم شكلت بُنية النظام الانتقالي حجر عثرة في طريق التحوّل السياسي؛ يتكون مجلس السيادة، وهو أعلى هيئة تدير الدولة، من ممثلين عن القوى المدنية المنخرطة في الثورة وعسكريين من القوى التي التحقت بالثورة وكانت جزءا من نظام البشير، فيما يمثل المجلس الوزاري، برئاسة حمدوك، السلطة التنفيذية المدنية، بيد أنه كان من الصعب تنظيم نطاق صلاحيات المجلسين، بحيث بات المكوّن العسكري في مجلس السيادة هو من يحتكر القرار في توجيه السلطة المدنية. وعلى الرغم من تضمين "الوثيقة الدستورية" فترة ترؤس البرهان المجلس بفترة محدّدة، ثم تنتقل الرئاسة إلى القوى المدنية حتى انتهاء الفترة الانتقالية وإجراء انتخابات، فإن مبادئ الوثيقة لم تستطع إخضاع القوى العسكرية لشروط عملية الانتقال، بحيث انقلب البرهان الذي تركّزت السلطة في يده على مبادئ الوثيقة، ومن ثم فإن التسوية التي لجأت إليها القوى الثورية لاقتسام السلطة مع القوات العسكرية لم تكن ضمانة حقيقية لعدم حدوث أي انحرافاتٍ مستقبلية، حتى إن كانت التسوية مضبوطة زمنياً ونصّبت الشارع قوة رقابية على تدخلات السلطة العسكرية، إذ إن شكل النظام الانتقالي منح السلطة العسكرية برئاسة البرهان، اليد العليا في إدارة الحكومة المدنية، بحيث أخضعتها لسلطتها.

انخراط القيادات العسكرية المتورّطة في السلطة الانتقالية شكّل عائقا أمام تنفيذ الحكومة التزاماتها

وقد شكّلت طبيعة التسوية الانتقالية خطأ استراتيجيا ارتكبته القوى الثورية في السودان، بحيث أوجدت تحدّياتٍ عديدة لاستمراريتها، إذ لا تقتصر هذه التحدّيات على حتمية طغيان القوى المسلحة على القوى المدنية، وإن ادّعت حمايتها، وإنما على الالتزامات التي تفرضها عملية الانتقال السياسي. وتمثل أحد أهم هذه التحدّيات إجراءات تحقيق العدالة والمصالحة على المستوى الوطني، التي تقتضي تسليم المتورّطين في جرائم الحرب التي شهدتها السودان على مدى عقود، والذي كان أهم التزامات السلطة الانتقالية لتحقيق عملية انتقال سياسي. إلا أن انخراط القيادات العسكرية المتورّطة في السلطة الانتقالية شكّل عائقا أمام تنفيذ الحكومة التزاماتها، وهو ما تجلى بموقف السلطة الانتقالية من تسليم البشير لمحكمة الجنايات الدولية جراء جرائمه في دارفور. ففي حين وافقت الحكومة على تسليمه، رفض المكوّن العسكري في مجلس السيادة الذي يتزعمه البرهان هذه الخطوة، إذ إن هذا يعني تقديم المتورّطين في جرائم الحرب، من "حميدتي" قائد قوات التدخل السريع، المتورّط بجرائم حرب في دارفور، إلى البرهان، حيث تورّطت قوات تحت مسؤوليته بقتل المتظاهرين، فيما مثّل إصلاح بنية المؤسسة العسكرية السودانية، وإعادة هيكلتها، هدفا لعملية الانتقال السياسي، ومن ثم سببا في تصاعد الصراع بين السلطتين.
في مقابل انحياز الحكومة تحت ضغط الدعوات المدنية إلى دمج قوات التدخل السريع في المؤسسة النظامية، يرفض العسكريون ذلك بهدف إبقائها قوة منفلتة وبلا رادع، لإرهاب خصومها من القوى المدنية، فيما شكّل نموذج الحكومة المدنية التي تنحو إلى تحقيق قدر من الانفتاح النسبي في مواجهة القوى المحافظة التي تمثلها السلطة العسكرية خط افتراق آخر.

خروج الإخوان المسلمين من معادلة التغيير في السودان أدّى إلى عزل حركة الاحتجاجات الشعبية على الصعيد الإعلامي العربي

عند تشريح تركيبة القوى الثورية، الممثلة في السلطة الانتقالية المدنية في السودان، نجد أنها توليفة من القوى اليسارية والنقابية والمدنية، وهو ما أوجد تحدّيات عديدة في تثبيت سلطتها، فخلافاً لحركة الاحتجاجات في المنطقة، حيث يحضر تنظيم الإخوان المسلمين قوة محلية صدّرتها الدول الإقليمية المؤيدة لها، فإن خروج الإخوان المسلمين من معادلة التغيير في السودان أدّى إلى عزل حركة الاحتجاجات الشعبية على الصعيد الإعلامي العربي، وكذلك قيّد حضور الحكومة المدنية المنبثقة عنها على المستوى الإقليمي، مقابل تكريس السلطة العسكرية ممثلة بالبرهان، إذ إن الإخوان المسلمين في السودان يمثلون حزب السلطة المثار عليه، وأحد داعمي نظام البشير، الإسلامي، ومن ثم تموضع "الإخوان" على الضد من مصالح المتظاهرين، ومع القوى العسكرية التي حاولت استمالتها، وهو ما تمظهر بإدانة قطاع واسع من مشايخ الدين المظاهرات التي نظمتها القوى المدنية احتجاجا على سيطرة العسكر على السلطة، وكذلك تواطؤ مجمل تنظيمات الإخوان المسلمين وأحزابها في المنطقة العربية. الأمر الذي يكشف ازدواجية التنظيمات الإسلامية على اختلاف أيديولوجياتها في موقفها من مبدأ الديمقراطية، إذ تؤمن به وتدعمه في حالة واحدة فقط، أن يكون لصالح تمكينها من السلطة فيما تتحوّل إلى مشرعن وداعم للانقلاب ووأد الديمقراطية في الدول التي أزيحت من سلطتها.

الدول الإقليمية المحافظة التي ترى في أي تجربة مدنية ديمقراطية في المنطقة استهدافاً لها، تفضل في كل الحالات النظام العسكري المحافظ، "صديق إسرائيل"

في بلد فقير كالسودان، يعاني من أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية مركّبة، وإن حاول المضي نحو الانتقال السياسي، فإن الاستقطابات الإقليمية وأشكال التدخلات المباشرة وغير المباشرة شكلت كابحا لعملية التحوّل، فإضافة إلى الدور الذي لعبه الاحتلال الإسرائيلي في دعم سلطة عبد الفتاح البرهان، لتمديد نفوذه في أفريقيا، مقابل تحفظه على الحكومة المدنية، فإن ملء إثيوبيا سد النهضة وتجاهل مصالح السودان ومصر، الدولتين المطلتين على النيل، مثّل عامل ضغط على الحكومة المدنية، بما في ذلك اندلاع الحرب في إثيوبيا ونزوح آلاف الإثيوبيين إلى شرق السودان، فضلاً عن كيفية التعاطي مع إرث البشير، وفي مقدمتها استمرار مشاركة القوات السودانية في الحرب التي تقودها السعودية في اليمن، إذ ظل البرهان يعيق سحب القوات السودانية لضمان استمرار الدعم من السعودية والإمارات، ومن ثم كانت كفّة الترجيح تميل لصالح تقويض الحكومة المدنية ودعم السلطة العسكرية ممثلة بالبرهان، فمع كل المآخذ على أداء الحكومة المدنية وفشلها في تنفيذ التزاماتها المحلية، بما في ذلك التزاماتها الإقليمية، كانت للقوى الإقليمية المتدخلة في السودان حساباتها الخاصة، فحتى مع تقديم السعودية والإمارات دعما ماليا للحكومة المدنية في مرحلة مبكرة، فإنه لم يكن اعترافاً بالاحتجاجات الشعبية، وإنما في سياق معادلة سياسية إقليمية مختلفة، إذ كانت في جوهرها نكاية بتنظيم الإخوان المسلمين الذي أطاحته الاحتجاجات الشعبية، لا بشخص البشير. ومع تقارب الدول المناوئة للإخوان والداعمة لها مع بداية هذا العام، بدا أن الحكومة المدنية تعيش آخر شهور ربيعها المضطرب، وتفقد أوراق الدعم الإقليمي، إذ إن الدول الإقليمية المحافظة التي ترى في أي تجربة مدنية ديمقراطية في المنطقة استهدافاً لها، تفضل في كل الحالات النظام العسكري المحافظ، "صديق إسرائيل"، على حكومة مدنية غير مأمونة التوجهات، وهو ما تمظهر بالدعم الإماراتي للانقلاب، فيما مثّل سيطرة حليف عسكري قوي، كالبرهان، على السلطة في السودان هدفاً للنظام العسكري المصري الذي يرى في نجاح حراك شعبي في جبهته الجنوبية، خطورة تقتضي تقويضها.
"الشعب أقوى"، هذا ما يقوله المتظاهرون الذين يجوبون يومياً شوارع المدن السودانية، تنديداً بسيطرة العسكر على السلطة، في درس إنساني مؤثر للمقاومة السودانية المدنية التي تواجه خصوما كثيرين. "الشعب أقوى"، هذا ما تقوله حدّة الاضرابات اليومية التي دعت إليها القوى المدنية ضد طغيان العسكر، لكن وإنْ كان "الشعب أقوى" في تطلعاته المشروعة في الحرية والكرامة، فإن مسارات الالتفاف على خيارات الشعوب ومصالحها تقودها دائماً قوى محلية، لا وطنية، متواطئة مع مصالح القوى الإقليمية، بحيث تطيل معاناة الشعوب وتعيق مسيرتها الطويلة نحو الحرية، وقد تعيدها إلى سنوات الصراع.