انطلاق "موسم الجنون"
ترامب يؤدّي اليمبن الدستورية في باحة البيت الأبيض رئيساً لولاية ثانية (20/1/2025/Getty)
لم يكن حفل تنصيب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عادياً، بل كان إيذاناً بافتتاح "موسم الجنون" الذي سنعيشه على مدى الأعوام الأربعة المقبلة. لم ينتظر ترامب طويلاً قبل الإعلان عن خططه الداخلية، والتي من شأنها أن توسّع الانشقاقات في الداخل الأميركي، وخصوصاً أن الرئيس الجديد لم يراع أياً من الإجراءات البروتوكولية المفترض أن تُتّبع في مثل هذا الحفل المنقول على مختلف الشاشات العالمية، فخطاب ترامب دمّر كل المشاهد المهيبة التي كانت في بداية الحفل، وفتح النار على الخصوم والجوار. ورغم إعلان معارضته دخول الولايات المتحدة في حروب، إلا أن من شأن فحوى ما قاله إشعال معارك داخل أميركا وخارجها، عسكرياً واقتصادياً وسياسياً.
كان واضحاً أن ترامب "عائد لينتقم"، فلم يعمل أي حساب لوجود سلفه جو بايدن ونائبته كامالا هاريس، وغيرهما من الرؤساء ونواب الرؤساء السابقين، سواء من الديمقراطيين أو الجمهوريين، ليفتح النار على "النظام الفاسد" الذي كان يحكم الولايات المتحدة. ومثل هذه العبارة لم يستخدمها أي من الرؤساء السابقين لمهاجمة سلفه، خصوصاً بعد الفوز في الانتخابات. فخلال المناظرات أو الحملات الانتخابية ممكن أن يرتفع سقف الاتهامات، غير أنه مع نهاية الحمّى الانتخابية، عادة ما يشكر الرئيس المنتخب سلفه، وينحّي الخلافات جانباً.
هذا من المفترض أن يكون الأمر الطبيعي، لكن علينا مع ترامب توقع كل ما هو غير عادي. الأمر لم يقف عند حدود مهاجمة إدارة بايدن خلال وجوده، بل انتقل إلى مشاريع من شأنها إحداث أزمات داخلية وخارجية للولايات المتحدة، وهو ما بدأ مع قرار إغلاق الحدود مع المكسيك وبدء ترحيل المهاجرين غير الشرعيين، ومنح القوات المسلحة حقوق استخدام العنف في "مكافحة الجريمة"، وهو ما يمكن أن يخلق بؤر اشتباك في أكثر من منطقة في الولايات المتحدة.
داخلياً أيضاً، كان لافتاً استغلال ترامب لخطاب التنصيب ليعلن أنه "لن يكون في الولايات المتحدة غير جنسين فقط"، في إشارة مباشرة إلى ما بات يطلق عليه "مجتمع الميم". ورغم أن هذا الأمر كان في طليعة مشاريع ترامب الانتخابية، وهو ما ساهم إلى حد كبير في انتخابه من الجمهور الأميركي المحافظ، إلا أن تطبيقه لم يكن متوقّعاً أن يكون بهذه السرعة ومن دون مقدّمات وتمهيدات. ومن غير الواضح كيف سينعكس هذا الإعلان اجتماعياً، إلا أن من غير المتوقع أن يمر من دون احتجاجات واسعة، قد تتحول إلى مواجهات.
خلا الخطاب من إشارات مباشرة إلى السياسة الخارجية، إذ لم يأت على ذكر روسيا أو الصين ولا حتى إسرائيل، بل اكتفى بعبارة الشرق الأوسط في حديثه عن "تحرير الرهائن". لكن ذلك لم يمنع ترامب من إعلان نيته فتح جبهات مع الجوار، بدءاً من بنما واستعادة قناتها التي اعتبر أن منحها لهذه الدولة كان "حماقة"، وهو ما رد عليه الرئيس البنمي، خوسيه راؤول مولين، مؤكّداً أن بلاده لن تفرط في القناة.
لم يوضح ترامب كيفية استعادة القناة، لكن في ظل مثل هذه الأجواء المتوترة التي خلقها، والتي دفعت بنما إلى تقديم شكوى رسمية إلى الأمم المتحدة، فإن الأمر لن يتم بشكل سلمي. الأمر نفسه مع المكسيك التي ينوي ترامب تغيير اسم خليجها ليكون خليج أميركا.
هذه عيّنة صغيرة من "موسم الجنون" الذي افتتحه ترامب، والذي يمكن الإضافة إليه الانسحاب من اتفاقية باريس البيئية وإطلاقه التنقيب عن النفط الأحفوري في الولايات المتحدة ونيته فرض ضرائب على الدول، وغيرها الكثير من الأمور التي تؤشّر إلى أننا مقبلون على أربع سنوات كارثية، خصوصاً في حال اعتمد ترامب السياسة الخارجية نفسها في ولايته الأولى، وتحديداً في ما يخصّ الدول العربية.