انتفاضة الفقر في مصر: أسبابها ودلالاتها

انتفاضة الفقر في مصر: أسبابها ودلالاتها

12 أكتوبر 2020
+ الخط -

اندلعت في 20 أيلول/ سبتمبر 2020 احتجاجات شعبية في عدد من المحافظات والقرى المصرية. وقد بدأت في بعض قرى محافظة الجيزة، ثم انتقلت إلى محافظات صعيد مصر، مثل أسيوط وسوهاج وقنا والمنيا وبني سويف والفيوم وأسوان والأقصر. وعلى الرغم من القمع الشديد، والإنغلاق السياسي القائم منذ وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى السلطة، نجح المحتجّون في الخروج للتظاهر في هذه المناطق، مطالبين برحيل السيسي من السلطة. وقد وصلت الإحتجاجات إلى ذروتها في الـ 25 من الشهر نفسه، فيما تعرف بـ "جمعة الغضب" التي خرجت فيها مظاهرات في عدد من المحافظات المصرية، خصوصا في صعيد مصر.

أسباب الإحتجاج
هناك أسباب عديدة لخروج الإحتجاجات، يتعلق معظمها بالأوضاع الاقتصادية والإجتماعية التي تفاقمت خلال الشهور الماضية، بسبب تداعيات جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد -19)، وتسببت في تعطل مهن ومشروعات عديدة عن العمل. وبحسب بيان للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وهي مؤسسة رسمية مصرية، فقدَ ما يقرب من مليوني ونصف المليون شخص وظائفهم حتى آب/ اغسطس 2020، وارتفع معدّل البطالة، وفق الأرقام الرسمية، من 7.7% إلى نحو 9.6% خلال الشهور الستة الماضية، وإن كان بعضهم يشكك في صحة هذا الرقم، ويعتبر أن معدل البطالة أعلى من ذلك بكثير. في حين يشير الجهاز أيضًا إلى أن نحو 26% من الأفراد المشتغلين بالأسر المصرية فقدوا عملهم نهائيًا بسبب جائحة كورونا. ويتركّز معظم من فقدوا وظائفهم في الصناعات التحويلية، كالصناعة الغذائية وصناعة المنسوجات والملابس والمنتجات الزراعية ومواد البناء والتشييد، وكذلك في قطاعات النقل والمواصلات والتخزين. كذلك تركت الجائحة آثارًا وخيمةً في قطاع السياحة الذي يساهم بنحو 12% من الناتج المحلي الإجمالي في مصر، وأدخل نحو 13 مليار دولار إلى مصر عام 2019. وقد توقعت دراسة رسمية حدوث خسائر كبيرة في قطاع السياحة تصل إلى أكثر من 70%، نتيجة تفشّي فيروس كوفيد - 19. وقد تضرّر كثيرون من العاملين في قطاع السياحة والطيران، يصل عددهم إلى قرابة مليونَي شخص نتيجة تراجع إيرادات السياحة، وتعد محافظة الجيزة الأشد تأثرًا من الأضرار التي أصابت هذا القطاع، لذلك لم يكن مفاجئًا أن تشتعل المظاهرات في كثير من قرى الجيزة، احتجاجًا على الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية.

ارتفع معدّل البطالة، وفق الأرقام الرسمية، من 7.7% إلى نحو 9.6% خلال الشهور الستة الماضية

وأدّت السياسات والقرارات الحكومية الأخيرة، خصوصا المتعلقة برفع الأسعار، دورًا مهمًا في إشعال موجة الإحتجاجات، وكانت قرارات هدم المنازل المخالفة القادحَ الذي فجَّر الغضب، فقد أصدرت الحكومة قرارًا بإزالة الأبنية المخالفة أو دفع غرامات، ما أثر سلبيًا في الفقراء ومحدودي الدخل. وبحسب تقارير رسمية، بلغ عدد المنازل المخالفة التي تم بناؤها في الفترة 2000-2017 نحو مليونَي منزل. وقد توعدت الحكومة بهدم هذه المنازل المخالفة، ما لم يقم أصحابها بتعديل أوضاعها والمصالحة عليها من خلال دفع غرامات مالية. وإذا كان صحيحًا أن جميع المناطق والمحافظات التي تعاني فقرًا وفقرًا مدقعًا في مصر لم تخرج للإحتجاج على أوضاعها الإقتصادية والمعيشية، إلا أن القرى والنجوع التي تظاهرت واحتجّت تمثّل عينة جيدة لمعرفة العلاقة بين الفقر واللجوء إلى الإحتجاج في مصر.

الفقر والاحتجاج: قراءة في دلالات الأرقام
لم يكن ما شهدته مصر خلال الأيام الأخيرة من أيلول/ سبتمبر 2020 من احتجاجاتٍ سوى انعكاسٍ للأوضاع الإقتصادية والإجتماعية التي ما فتئت تتردّى، منذ وصول الرئيس السيسي إلى الحكم عام 2014، واعتماده القمع مع سياسات اقتصادية نيوليبرالية حادّة أدّت إلى تعويم سعر العملة الوطنية ورفع الأسعار وزيادة الرسوم زيادة كبيرة، ما أدّى إلى انتشار الفقر على نطاق واسع. وثمّة علاقة واضحة بين خريطة الفقر ومعدّلات الفقر في مصر، والمناطق التي شهدت احتجاجاتٍ، خصوصا في صعيد مصر، فبحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن خط الفقر القومي لعام 2017/ 2018 بلغ 32.5%، وهو ما يعني أن أكثر من ثلث الشعب المصري، الذي يبلغ تعداده 100 مليون شخص، يعيش تحت خط الفقر الرسمي، الذي يصل إلى 735 جنيهًا شهريًا أو ما يعادل 47 دولارًا للشخص. وترتفع معدّلات كبيرة في مناطق مختلفة من البلاد، خصوصا في صعيد مصر الذي تصل نسبة الفقر فيه إلى نحو 52% مقارنة بالجزء الشمالي من مصر. وتبلغ نسبة الفقر في محافظة أسيوط، على سبيل المثال، نحو 66%، وفي سوهاج 57%، وفي الأقصر 55.3%، والمنيا 54%، وقنا 41%. في حين ارتفعت نسبة الفقر خلال الفترة 2016-2018 بنسبة 4.7%، نتيجة تطبيق سياسات الإصلاح الإقتصادي، وذلك وفقًا لوزيرة التخطيط المصرية، هالة السعيد. وبحسب البيانات الرسمية، فإن من بين أفقر ألف قرية في مصر توجد نحو 226 قرية في سوهاج، و206 قرى في أسيوط و66 قرية في المنيا؛ وهو ما يعني أن معظم القرى في صعيد مصر تعاني فقرًا شديدًا. لذلك لم يكن مفاجئًا أن يشهد بعض هذه القرى احتجاجات ومظاهرات للمطالبة بتحسين أوضاعهم الإقتصادية والمعيشية.

قرارات هدم المنازل المخالفة كانت القادحَ الذي فجَّر الغضب، فإزالة الأبنية المخالفة، أو دفع غرامات، أثر سلبيًا في الفقراء ومحدودي الدخل

ويمكننا وصف احتجاجات مصر الأخيرة بأنها انتفاضة الفقراء الذي يعانون وطأة الأوضاع المعيشية والاقتصادية، في حين لوحظ غياب مشاركة الطبقة الوسطى. ويعود ذلك إلى أسباب متعدّدة، بعضها يتعلق بالقمع والخوف من ردّة فعل النظام، حيث يحكم قبضته في المدن، وإمكانية انتقامه ممن قد يشاركون في هذه الإحتجاجات، وذلك على غرار ما فعل قبل عام 2019، حين اعتقلت أجهزة الأمن أعدادًا كبيرة من المشاركين في الإحتجاجات التي طالبت برحيل السيسي، ومنها أيضًا ما يتعلق بالشعور باليأس والإحباط من فشل ثورة يناير 2011 التي لم تحقق أهدافها، وخيبات الأمل التي أصابت شبابا كثيرين شاركوا فيها.

ردة فعل النظام 
فوجئ النظام المصري، على ما يظهر، بخروج الاحتجاجات المطالِبة برحيله، وذلك لعدّة أسباب، منها: القبضة الأمنية الشديدة، وسياسات الترهيب والتخويف التي يمارسها منذ أكثر من سبع سنوات، والتي وأدت الحراك الشعبي إلى حد بعيد. ولعل ذلك ما أصاب النظام بقدرٍ من الإرتباك في الأيام الأولى للإحتجاج، ووقوفه عاجزًا أمامها. وهذا أيضًا ما ساعد في انتشارها واتساع رقعتها على نحو بعيد خلال أيام قليلة. وفي بداية الإحتجاج، لم يلجأ النظام إلى استخدام القوة المفرطة أو العنيفة في فضّ هذه الإحتجاجات، بسبب تكتيكات الإحتجاج الجديدة التي فاجأت على ما يبدو أجهزة الأمن، ومنها مثلًا الخروج الليلي للمحتجين، والإنتشار في عدة قرى في الوقت نفسه، وعدم إبراز وجوه المحتجّين، واستخدام تقنيات معينة لتصوير الإحتجاجات وبثها على وسائل التواصل الإجتماعي، وإرسالها إلى وسائل الإعلام في الخارج. كما يمكن أن يكون التخوّف من ردّات فعل الكتلة الصامتة أيضًا أحد أسباب عزوف النظام عن استخدام القمع الشديد في بداية الإحتجاج؛ فقد كان واضحًا أن النظام يتحسّب لاحتمال اتساع نطاق الإحتجاجات وخروجها عن السيطرة، ما قد يؤدي إلى انتفاضة كبرى أو ثورة تشارك فيها فئات أخرى من الطبقة الفقيرة أو الوسطى. لذا لم يكن أمام النظام سوى شنّ حملة إعلامية مضادّة من أجل تشويه الحراك والتقليل من أهميته ومغزاه.

احتجاجات مصر الأخيرة انتفاضة الفقراء الذي يعانون وطأة الأوضاع المعيشية والاقتصادية، في حين لوحظ غياب مشاركة الطبقة الوسطى

في البداية، أنكر الإعلام المحسوب على النظام وجود مثل هذه التظاهرات، ولكن بعد اتساع نطاقها وزيادة أعداد المشاركين فيها، اعترف بوجودها، وإنْ على نطاق ضيق. وبعد ذلك، اعتبرها جزءًا من مؤامرة خارجية، وجرى استحضار "العدو الجاهز"، ممثلًا في جماعة الإخوان المسلمين باعتبارها الجهة التي تقف وراء الإحتجاجات. وقد وجد النظام صعوبة في إقناع الرأي العام بأن جماعة الإخوان تقف خلف هذه الإحتجاجات، فالجماعة تعاني قمعًا شديدًا جعلها تفقد الكثير من قدراتها التنظيمية والتعبوية. ربما يكون بعض أفراد الجماعة أو مؤيديها شاركوا في الإحتجاجات نتيجة تضرّرهم من الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية مثل بقية المحتجين، لكن وجودهم لم يكن بارزًا.

وجد النظام صعوبة في إقناع الرأي العام بأن جماعة الإخوان تقف خلف هذه الإحتجاجات

مع استمرار الإحتجاجات، بدأ النظام يلجأ إلى القمع المميت في فضّ بعضها، حيث قتل اثنين من المحتجين، الشاب سامي بشير في قرية البُليدة في محافظة الجيزة في 25 أيلول/ سبتمبر، وعيسى الراوي الذي قُتل بالرصاص في منزله على يدي أحد ضباط الشرطة المصرية في 30 أيلول/ سبتمبر. كما تم اعتقال مئات المحتجّين خلال الأسبوع الأخير من الشهر نفسه، بينهم عدد كبير من الأطفال الذين تم إطلاق سراح بعضهم. أما اللافت في هذه الإحتجاجات فهو غياب التغطية الإعلامية الأجنبية التي لم تُعرها اهتمامًا كبيرًا.

نقطة تحوّل
تمثل انتفاضة الفقراء نقطة تحولٍ في المشهد السياسي بمصر من عدة جوانب. أولها، أنها المرّة الأولى التي تخرج فيها مظاهرات واحتجاجات في أكثر من محافظة مصرية، خاصةً في محافظات الصعيد التي لا تشهد عادةً انتفاضاتٍ من هذا النوع، وترفع مطالبات برحيل رأس النظام السياسي، في ظل حالة من القمع الأمني غير المسبوق وإغلاق المجال العام. وثانيها، أنها من المرّات القليلة التي تنتفض فيها الفئات الفقيرة والمهمّشة من مناطق مختلفة، في الوقت ذاته، احتجاجًا على أوضاعها الإقتصادية والإجتماعية. وثالثها، انتشار الإحتجاجات على رقعة جغرافية كبيرة، ما جعل قمعها صعبًا نسبيًا. ورابعها، مشاركة الشباب حديثي السن في هذه الإحتجاجات على نحو واضح، ما يثير التساؤل حول مدى نجاح سياسات القمع والتخويف التي يستخدمها النظام لوأد ثقافة الإحتجاج، علمًا أن كثيرين من هؤلاء الشباب إما لم يشاركوا في ثورة يناير أو كانوا أطفالًا وقتها. وأخيرًا، تمثل الإحتجاجات الأخيرة، على صغر حجمها وانتشارها، خطوةً مهمة نحو استعادة المجال العام من الدولة البوليسية في مصر.