انتصرت غزّة ولو كره الكارهون

19 يناير 2025
+ الخط -

رغم الدمار ووحشية جيشها البربري، اضطرّت إسرائيل إلى أن توقّع اتفاقاً مع عدوّها، ممثّلاً في حركة حماس التي أعلن نتنياهو، في جميع تصريحاته، أنه سيجتثّها من الوجود، ويهجّر أيضاً سكّان غزة، ويعوّضهم بجحافل المستوطنين. سيتمكّن الأبرياء، بعد سنة ونصف السنة من القصف اليومي الذي لم يشهد العالم مثله منذ الحرب العالمية الثانية، والذي خلّف عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، منهم عدد كبير من الأطفال والنساء، من العودة إلى بيوتهم المهدّمة للبحث عن أهاليهم المدفونين تحت الركام، ثم تبدأ معاناتهم في الحصول على الطعام والدواء والغطاء وغير ذلك من الحاجات الأساسية، فحرب الإبادة لم تترك شيئاً قابلاً للحياة إلا وقضت عليه أو لوّثته، فجميع المؤسّسات الخدمية، الصحية منها والتعليمية والاجتماعية والخيرية، عُطّلت انتقاماً من شعبٍ أبى الخضوع لإرادة المستعمرين الصهاينة. وتذكر مصادر أميركية أن 70% من المساكن هُدمت، وأن أغلبية المستشفيات تضرّرت بالكامل، وأن 83% من المساجد جرى استهدافها.

وقف الحرب هو المطلب الرئيسي، فالأطفال والنساء والشيوخ ينتظرون بفارغ الصبر أن يناموا من دون سماع صخب الطائرات والانفجارات. لقد تعبوا نفسياً وجسدياً من رؤية الأجساد الممزّقة والرؤوس المقطوعة المتناثرة حولهم، ويحتاجون وقتاً طويلاً لينسوا تلك المشاهد الفظيعة لأفراد عائلاتهم وجيرانهم ورفاقهم وأحبتهم. ومع ذلك كله، يعتبر الاتفاق انتصاراً تاريخياً لغزّة والمقاومة، رغم الكلفة الثقيلة للحرب. ليس هذا الكلام من باب السفسطة اللفظية وترويحاً للنفس، وأنه هو الوجه الآخر للحدث، فالإعلام الإسرائيلي اعتبر الاتفاق هزيمة سياسية لحكومة نتنياهو، وجعلت بن غفير يهدّد بالاستقالة إلى آخر لحظة في حال التوقيع على وثيقة الاتفاق، وتم اللجوء إلى الترويج كذباً أن حركة حماس تراجعت عن أجزاء من الوثيقة، في محاولة لقلب الطاولة وإلغاء ما جرى التوصل إليه. لقد تحول الأمر إلى ورطة سياسية كبيرة ومعقّدة، جعلت القيادة الإسرائيلية في حالة ارتباك شديد. وتعتبر مناورات الساعات الأخيرة محاولة من أجل الالتفاف على التعهدات التي قبلت بها تل أبيب قبل أن تكتشف أنها اعترفت بحقوق تتضارب مع التصوّر العنصري والأهداف التوسّعية لهذه الحكومة. رغم ذلك، يجد نتنياهو نفسه ومن معه في عزلة قاتلة وفقدان للمصداقية حتى في صفوف المؤيدين لهم.

تقتضي اللحظة الراهنة تقديم الدعم السياسي والمدني والمالي لقيادة المقاومة التي لم تتمكّن فقط من الصمود العسكري بتعويض الشهداء الذين سقطوا في طريق الحرية، بل نجحت أيضاً في إدارة مفاوضات صعبة وشاقة، مع عدوٍّ عرف بمناوراته وخداعه وخبثه، مدعوماً بكل القيادات المخابراتية الإسرائيلية والأميركية، فالهجوم على هذه القيادة في الوقت الراهن ليس فقط خطأ تكتيكيّاً، بل يرتقي إلى درجة الخيانة، فالمسؤولية تقتضي حماية هذه القيادة، والدفع نحو الانتقال إلى دعم الفلسطينيين بكل الوسائل، من أجل الوصول إلى وضع اقتصادي واجتماعي مقبول، وبعد ذلك تأتي مرحلة التقييم والنقد والمحاسبة، في إطار الموضوعية والشفافية.

لا يمكن التقليل من أهمية ما تحقّق على مختلف الأصعدة، فالعالم ينظر اليوم بكثير من التقدير لصمود أكثر من مليوني فلسطيني، بقوا صابرين محتسبين، رغم خذلان محيطهم العربي وتواطؤ معظم الحكومات الوازنة في العالم التي دعمت هذه المجزرة الرهيبة، أو سكتت عنها ودفنت رؤوسها في التراب. وستؤكّد الأيام والأسابيع المقبلة العدوانية المتأصلة في هذا الكيان الذي أصبح بقاؤه مرتبطاً عضوياً بعاملين أساسيين هما التوسّع ومنطق الحرب. لهذا تعمّد أن يقتل أكثر عدد ممكن من المدنيين منذ التوصل إلى الاتفاق، وكأن العملية التفاوضية منفصلة تماماً عن ماكينة القتل المنفلتة. وستتواصل الخروق المتعمّدة بعد دخول الاتفاق حيز التنفيذ، وستستمر المؤسسة العسكرية في اتهام المقاومة بما ليس فيها. وحتى يتجنّب الطرف الإسرائيلي المزيد من الفضائح، جرى إصدار الأوامر بمنع الرهائن الإسرائيليين من التحدّث مع وسائل الإعلام، حتى لا يقدّموا مزيداً من الشهادات عن أخلاق مقاتلي "حماس" في تعاملهم معهم رغم وحشية القصف. هكذا تبخّرت أسطورة إسرائيل التي صنعها الغرب فقتلت فيه روح الإنسانية.