امتحان طالبان الحاسم أميركياً

امتحان طالبان الحاسم أميركياً

31 اغسطس 2021

أفغاني يبكي أفرادا من عائلته قضوا في قصف أميركي بكابول (30/8/2021/لوس أنجليس تايمز/Getty)

+ الخط -

بعد إعلان تنظيم "داعش ولاية خراسان" مسؤوليَّته عن التفجيرين الانتحاريَّين اللذين أوقعا عشرات القتلى، من الأفغان، بالإضافة إلى 12 جنديًّا أميركيًّا، قرب مطار كابول الدولي، ينفتح المشهد الأفغاني على تحدٍّ جدّيٍّ آخر أمام حركة طالبان التي تبدو حريصةً على تحقيق الأمن في البلاد، كما صرَّح الرئيس الأميركي، جو بايدن، بأنّ "مِن مصلحة طالبان أنْ تنسحب القوَّات الأميركية من أفغانستان في الموعد المحدَّد"؛ ما يعني أنها معنيَّةٌ بإثبات قدرتها على توفير الأمن، بعد رحيل القوَّات الأميركية والدولية. ويتقدّم هذا التحدِّي على تهديدات أخرى، جرى الحديث عنها، من قبيل الجماعات السياسية والإثنية والطائفية التي قد لا تتفق مع "طالبان"، فكريًّا، وسياسيًّا، بالإضافة إلى إشكالاتٍ تتعلَّق بأوضاع المرأة وحقوق الإنسان.
وإذا كانت الحركة تتعامل، بصفة عامّة، مع التحدّيات الأخيرة بأساليب سلمية واحتوائية، كما قال متحدِّث باسم "طالبان" إنَّ "الحركة أصدرت عفوًا عامًّا عن الجميع داخل أفغانستان، شمل الذين من قاتلوها، والذين تحالفوا مع أعدائها ضدها"، وإنها ستعتمد الإقناع في تنفيذ حظر الموسيقى، وليس القوَّة والإجبار، وإذا كانت الحركة خفَّفت بالفعل القيود على عمل المرأة، وعلى تعليمها، فإنَّ الخطر الدموي الذي يمثله تنظيم داعش، غير المقتصر على الجنود الأميركيين، يتطلَّب منها معالجات عسكرية ملِحّة. ذلك أنَّ نجاح "داعش" في إحداث هذه الهزَّة الخطيرة في قلب العاصمة كابول، وفي هذا التوقيت بالغ الحساسية والمفصلية، يترك مؤشِّرات قد تشكِّك في قدرة "طالبان" على فرض السيطرة على أفغانستان. وقد سارعت الحركة إلى إدانة الهجوم، وحرصت على نفيه بسرعة، بالقول إن التفجيرين الانتحاريَّين وقعا في منطقةٍ تقع تحت إشراف الجيش الأميركي، وليس تحت مسؤوليتها.

لا تتقدَّم حقوق الإنسان وأوضاع المرأة الأفغانية سُلَّم الأولويات الأميركية، فمعيار نجاح "طالبان" منع استخدام الأراضي الأفغانيَّة منطلقًا لعملياتٍ تهدِّدها

هذه المسألة هي محكّ الاختبار الحاسم لـ"طالبان"، ففي جوهر الموقف الأميركي معيار نجاح "طالبان" في منع استخدام الأراضي الأفغانيَّة منطلقًا لعملياتٍ تهدِّد أميركا، أو حلفاءها. وفي جوهر ما حرص القادة والمسؤولون الأفغان على تأكيده، بعد سيطرتها الإجمالية على البلاد، وعلى العاصمة كابول، الالتزامُ بهذا الشرط، ومنْع استخدام بلادهم لضرب أيٍّ من دول الجوار، أو دول العالم. أما القضايا الأخرى، من قبيل حقوق الإنسان، وأوضاع المرأة الأفغانية، فلا تتقدَّم سُلَّم الأولويات، في هذه المرحلة. وهذا ما اتفقت عليه دولٌ أخرى، منها روسيا، مثلًا، فقد حذَّر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من "خطر تسلُّل عناصر إرهابية تحت غطاء اللجوء إلى دول آسيا الوسطى". كما يهم موسكو أن تعمل "طالبان" على منع تمدُّد أيّ جماعات مهدِّدة مستقبلًا، سواء بالوجه الفكري، أو بالوجه العسكري، إلى مناطق نفوذها. وأن لا تتأثر جمهوريات آسيا المجاورة بتداعيات سيطرة "طالبان"، وألا تسمح الأخيرة لجماعاتٍ أخرى بالامتداد إليها. ولم تخفِ موسكو دعمها "طالبان". فبعد سيطرة الأخيرة على مناطق في شمالي أفغانستان، في الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، وصف مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى أفغانستان، زامير كابولوف، تلك السيطرة بالعامل الإيجابي الذي يوفر أمن شركاء روسيا في آسيا الوسطى. وأوضح أن "طالبان" تشكِّل "عامل كبْحٍ للجماعات المتطرِّفة التي هدفُها ليس أفغانستان، بل آسيا الوسطى وباكستان وإيران".
ويكمن تهديد مسلحي تنظيم داعش حركة طالبان في أنه يتقاطع معها في الفكرة الأساسية، الحكم بالشريعة، وإنْ لكلٍّ منهما تفسيره للشريعة، وكيفية الحكم بها، بالإضافة إلى النطاق الذي يُراد تعميمها عليه، فـ"طالبان" تقتصر على حدود أفغانستان، أما "داعش" فيرفض الإقرار بالحدود السياسية، فقد كان نموذجُها الذي تقوَّض، (الدولة الإسلامية في العراق والشام) في عام 2017 عابرًا للحدود السورية العراقية.

لا تشكِّك أميركا وروسيا ودول كبرى أخرى في محاربة "طالبان" تنظيم داعش، وفي استمرارية هذا الاستهداف

أما عن قدرة "طالبان" على تطهير البلاد من تنظيم داعش، فمِن الصعب البتُّ فيها. ولكن ثمة عوامل عدّة لا تعمل لصالح الأخير، منها التفوّق الطالباني، عدديًّا، (تُقدَّر أعداد مقاتلي "ولاية خراسان" ما بين 500 وبضعة آلاف، بحسب تقرير أخير لمجلس الأمن)، ولوجستيًّا، (خصوصًا بعد استيلاء قوَّات "طالبان" على مزيد من الأسلحة والمعدَّات الحربية)، بالإضافة إلى تمتُّعها بخبرة اكتسبتها من تجربتها السابقة في الحكم، (من 1996 إلى 2001) والخبرة التي اكتسبتها، بعد إخراجها من الحكم، من 2001 إلى الوقت الحالي. وثمَّة عاملٌ حاسم آخر، وهو مقدار التآلف مع الشعب الأفغاني، والاندماج في البيئة الاجتماعية الأفغانية، بتنوُّع مكوِّناتها العرقية والقبلية والطائفية، وهو الأمر الذي تُوِّج بدخولها السهل، نسبيًّا، والمرحَّب به، أحيانًا، إلى مناطق غير منتمية في أغلبيَّتها السكانية إلى إثنيَّة البشتون التي تمثِّل أكثر من 42% من السكّان، ويتحدَّر منها غالبيَّةُ عناصر "طالبان".
والعامل الثاني هو المواقف الدولية، فمِن أميركا إلى روسيا، إلى دول أوروبا، بالقطع، لا يفضِّلون "داعش" على "طالبان"، إذا ما كان لا بدَّ من المفاضلة، وكذلك الدول الإقليمية المجاورة، كإيران، والقريبة، نسبيًّا، كتركيا، ويصبح تقاطُع أيّ دولةٍ إقليميةٍ مع "داعش" أبْعَد، كلَّما أحكمت حركة طالبان سيطرتها على الحكم، وكلَّما نالت اعترافًا، أو قبولًا بحكمها. ولا تشكِّك أميركا وروسيا ودول كبرى أخرى في محاربة "طالبان" تنظيم داعش، وفي استمرارية هذا الاستهداف.

الخبرة الميدانية التي تتمتع بها "طالبان" أوسع نطاقًا من "داعش"، وأكثر تجذُّرًا في الأرض الأفغانية

على الرغم من ذلك كله، لا ضمانات بألا تتوفَّر لتنظيم داعش القدرة على كسر الاستقرار الأمني، بين الحين والآخر، بعمليَّاتٍ لا تتطلَّب جيشًا، أو كيانات عسكرية تضاهي قدرة "طالبان"، إنما عمليات تفجيرية يقوم بها فرد، أو أفراد، لكنها بالغة الأثر والخطورة. ومع ذلك، علينا ألا نُغفِل المرحلة التي تتموضع فيها حركة طالبان، فهي لا تزال في بدايات الإمساك بخيوط السلطة، ولا تزال المرحلة الانتقالية غير ناجزة، وقد تكون هذه العملية الأخيرة حافزًا، يسرِّع، أو يسهِّل العبور إلى تسوية سياسية، تنتهي بتشكيل حكومةٍ، لا تنفرد بها "طالبان" بالحكم، وإن كانت لا تزال تصرُّ على أن الكلّ السياسي يجب أن يكون تحت مظلَّة الشريعة. سوى ذلك، الخبرة الميدانية التي تتمتع بها "طالبان" أوسع نطاقًا من "داعش"، وأكثر تجذُّرًا في الأرض الأفغانية المشتملة على مناطق واسعة، هي الأكثر وعورة في العالم.
وأخيرًا، مع أن الهجوم أخيرا قد يُعَدُّ محنة لـ"طالبان"، في هذا التوقيت الحرج، فإنه أيضًا قد يصير منحة لجهة اكتسابها شرعية دولية وأميركية. فقد أوضح قائد القيادة المركزية الأميركية، الجنرال كينيث فرانكلين ماكنزي، أنَّ التهديد الذي يشكِّله تنظيم الدولة الإسلامية، في ولاية خراسان، لا يزال مرتفعًا، وأنَّ القوَّات الأميركية تعمل مع "طالبان"، (كما بإطلاعها على معلومات استخبارية)؛ في محاولةٍ لمنع وقوع هجمات أخرى، وأنَّ "طالبان" قد تمكَّنت من منع عديد منها.