اليوم العالمي للتفكر في الإبادة الجماعية

09 ابريل 2025

(ضياء العزاوي)

+ الخط -

في السابع من نيسان/ أبريل، ذكرى مليون شخص قُتلوا في رواندا خلال مائة يوم فقط في عام 1994، جلهم من التوتسي، ولكنْ من بينهم أيضا هوتو معتدلون ومعارضون آخرون للإبادة الجماعية. ... وتحيي الأمم المتحدة هذه الذكرى من أجل التفكر بها، واتخاذ العبر بالطبع، فهي ليست الإبادة الجماعية الأولى في تاريخ البشرية، غير المشرّف، وأخمّن أنها لن تكون الأخيرة، إنما لا بد من الوقوف أمام ذاكرة أو أحداث تاريخية من هذا النوع/ وتفكيكها، واستخلاص ما يمكن الاستفادة من مخرجاتها، والأساليب التي تمت معالجة هذه المخرجات بها، خاصة إذا تأملنا تجارب، يمكن وصفها بالناجحة، عبر التاريخ، ومنها المصالح الوطنية في رواندا.

نحن في سورية، الوطن المنهار على مختلف الصعد، بعد أن سقطت ديكتاتورية من الأقبح في التاريخ، قتلت وهجّرت وأبادت وارتكبت مجازر بحق شعبها، لتخلف وراءها كل ما يمكن أن يورّث نظام من هذا النوع من الكراهية والضغينة والثأرية، والنكوص المريع نحو الماضي بأحلك فتراته التاريخية، في حاجة ملحّة لقراءة التاريخ، تاريخنا، تاريخ المنطقة، تاريخ الشعوب التي مرّت بتجارب مشابهة.

لم تتوقف المجازر في سورية 14 عاماً، واكبها تجييش وحشد طائفي وعنصري هائلان، مع رسوخ واقع مرير، أن قوى شر كبيرة عاثت بأقدامها الموبوءة في حياة الشعب السوري فساداً، ولعبت بأقداره ومصائره، وكان السوريون الوحيدين الغائبين تقريباً عن اللعب، بل كنا ملعوباً بهم.

فرح الشعب السوري، بغالبيته الساحقة، بسقوط الطاغية، لم يكونوا فرحين فحسب، بل أطاشهم فرحهم، لم يكونوا ليصدّقوا، مع طول رحلة العذاب والمقاومة التي تحوّلت إلى حرب، وجودية، لمكوّناتٍ تنتمي إلى الوطن نفسه، بعضها ضد بعض، لم يكونوا ليصدّقوا أن الأسد لن يبقى إلى الأبد. ولكن لا أبد موجوداً سوى للخالق العظيم، هذا ما كان على الكائن البشري أن يفهمه عبر التاريخ.

ليس من التجنّي الاعتراف بأن الوجه المشرق للثورة السورية قد اغتيل باكراً، وأن النظام البائد سقط، لكن الحلم المرجو لم يتحقق

ليس من التجنّي الاعتراف بأن الوجه المشرق للثورة السورية قد اغتيل باكراً، وأن النظام البائد سقط، لكن الحلم المرجو لم يتحقق، وأن سورية باتت رهينة صراعات مرتهنة إقليميّاً ودوليّاً، تسير إلى خواتيمها مع سير هذه الصراعات، لكن من المجدي الاعتراف أيضاً بأن هؤلاء العناصر الغرباء المؤدلجين بعقيدة سلفية جهادية وفكر مغلق على مفاهيم وأهداف محدّدة، لا يعرفون قضية، في سورية وغيرها، غير أنهم يقومون بجهاد مقدّس، يُكافأ فيه من ينال الشهادة وهو يقتل الآخرين المختلفين عنه في التفكير، مهما كانوا، حتى لو كانوا متمسّكين بدينهم نفسه وإيمانهم. فكيف بالمختلفين؟

هذا ما وقع، ويقع منذ بدايات الحكم الجديد في سورية، بحقّ أقلية أكثر من غيرها من باقي الأقليات، وعلى أساس طائفي بغيض، مجازر بحق الطائفة العلوية، من دون مواربة أو تضليل أو تستر على النيات، مبنية على سؤال وحيد، عدا التقارير الاستخباراتية المعروفة عن بعضهم، سؤال: هل أنت علوي... ثم يتم القتل بطرق عديدة، مع تصوير لتلك العمليات الوحشية والتباهي بها، مع وعيد باستباحة الجماعة كلها. وثّقت هذه الجرائم منظّمات حقوقية، ومنظمات دولية مثل "العفو الدولية" (أمنستي)، وهناك توثيقات محلية من قلب الحدث، استشهد ناشطون سوريون بما وثّقه شهود عيان، منها على سبيل المثال ما نشرته الكاتبة السورية روزا ياسين حسن، من شهادات مؤلمة وصادمة.

أدّت حالة الرعب والوضع المعيشي المزري الذي يحيط بأبناء الساحل، أو أبناء الطائفة العلوية بشكل عام، إلى أن ترفع شريحة منهم الصوت مطالبة بحماية دولية أو انفصال بإقليم خاص، أو أقله "لامركزي". ومن الطبيعي أن تحدِث طروحاتٌ من هذا القبيل عواصف من السجال والخلاف والتخوين، ضمن المجموعة نفسها، وضمن الشعب السوري بشكل عام.

في الواقع، من الحكمة الابتعاد عن العواطف والمشاعر الغاضبة في حالاتٍ من هذا النوع، بل مطلوب من العقلاء الاستماع إلى أصوات المعذّبين والضحايا، وتفهم معاناتهم، ولو عُدنا إلى التاريخ، القريب جداً، ولم ينتهِ بعد، لوجدنا أن الحالة السورية وصلت إلى التقسيم منذ سنوات، وهنا أستذكر منشوراً للإعلامية في مؤسسة دويتشه فيليه الألمانية، ميسون ملحم، كتبته في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، طرحت فيه حينها "فكرة التقسيم" حلّاً وحيداً لحماية من كان يعيش في إدلب والمناطق الخارجة عن سيطرة النظام، تقول ملحم في استذكارها المنشور قرينة أمام ما يقع اليوم في الساحل: كثيرون ممن أعجبوا يومها بهذا المنشور ولم يشيطنوا الفكرة، حتى وإن اختلفوا معها، وكثيرون ممن تداولوها أراهم اليوم يصلون إلى حدّ نزع صفة الإنسانية عن طروحاتٍ مشابهةٍ يطلقها بعضهم يأساً تحت سطوة المجازر المستمرّة التي باتت تحصد حتى أرواح الأطفال يوميّاً، بكل وقاحة وثقة بالإفلات من العقاب، يشيطنون من يتعلق بسراب اسمه حماية دولية، أو أي قشّة أخرى يعتقد أنها قد تضع حدّاً للمجازر، من دون أن يفكروا ولو لحظة بطرح حلٍّ بديل.

انتهى الاقتباس، لكن السؤال يعود ملحّاً حول "الحلّ البديل". من المسؤول عنه، وعن تحقيقه وإنجازه، متناغماً برغبة شريحة واسعة من السوريين، من كل فئات الشعب، ويعلنون، شفاهة على الأقل موقفهم من التقسيم وتمسكهم بوحدة سورية؟ أليست السلطات الحاكمة؟ أليست مسؤولية حكومة أحمد الشرع حماية كل الشعب السوري، والدفاع عن السيادة الوطنية، والتراب السوري كاملًا؟

على السلطة الحاكمة أن تقوم بمسؤولياتها قبل كل شيء، أن تعترف وتقتنع وتمارس دورها ممثلة لسلطة تحمي دولة على مسافة واحدة من جميع مواطنيها

صحيحٌ إن المرحلة فائقة الحساسية والخطورة، والدقة، والتشابك بين الإرادات، المحلية والإقليمية والدولية. ولكن، هناك استحقاقات من الواجب الالتفات إليها، وليست مناسبة كالتي تحيي ذكراها الأمم المتحدة قليلة الأهمية بالنسبة إلى واقعنا، ففي مثل هذا اليوم، منذ 31 عاماً، جرت إبادة نحو مليون ضحية من أٌقلية توتسي من جماعة هوتو الأغلبية، في أقل من مائة يوم. رواندا، على طريق المصالحة:

بعد هذه السنوات من الإبادة الجماعية، لا تزال أرض رواندا تلعق جراحها. وإلى جانب المبادرات الحكومية الرئيسية (اللجان الوطنية، وعدالة الغاكاكا، والنصب التذكارية، وبرنامج ندي أومونيارواندا، و"أنا رواندي"، وما إلى ذلك)، تستمر عملية الوحدة والمصالحة من خلال مشاريع تعدّدية تنفّذها المنظمات غير الحكومية، والمعالجون، والكنائس، وما إلى ذلك، بمشاركة الناجين وأحفادهم ومرتكبي الجرائم. انتعاش طويل وبطيء مليء بالنجاحات الملحوظة والخصومات الكامنة. مع نظام قوي وعودة مثيرة للانقسام مثيرة للقلق، وحرب مميتة في شمال كيفو المجاورة. بمناسبة الذكرى الثلاثين للإبادة الجماعية للتوتسي، رواندا التي ماتت واقفة في عام 1994، كما يقول كاتب فرنسي لم أعد أذكر اسمه، هي اليوم مختبر اجتماعي وسياسي وتذكاري. جدير بنا الوقوف أمام محنتها التي تشبهنا. انتشرت أغنية، وأشاعت الدفء في النفوس الحزينة، تقول: "عندما يحين الوقت، سأعود إلى المنزل / عندما يحين الوقت، سأعود ...".

لقد اكتفى الشعب السوري قتلاً وعنفاً وتهجيراً، وثأرية وكراهية، وحروباً، وها هو التاريخ، الجاري، ما زال جارياً ويعيد نفسه، فقد بدأت قوارب الهروب نحو المجاهيل تمخر عباب البحور.

بالعودة إلى رواندا يواصل نادي الوحدة والمصالحة. ..."ما هي قيم برنامجنا؟" يسأل المخرج النشط والقتالي، أليكس مورينزي. الوجوه جادّة ومطيعة. ترفع الأصابع واحدة تلو الأخرى، منضبطة: "أحبّوا بلدنا"، "لا تتآمروا ضد الدولة"، "اعملوا"، "احترموا قوانين رواندا"، "لا تعارضوا الوحدة الوطنية"... في هذا القول ما يُبكي، هل لدينا وحدة وطنية في سورية؟ وهل لدينا حكومة "وحدة وطنية"؟

ويجري الحوار حول فكرة الأمن. "موضوع مركزي في حياتك"، يصرّ الجندي السابق بهدوء أكبر. الأمن ليس زيّاً رسميّاً. هذا ما تبنيه هنا، بهدف إطلاق سراحك: تحديد الهدف من وجودك، وتربية أطفالك، ودفع الرسوم الدراسية، وإنشاء شركة تأمين صحي، والعناية بصحتك الجسدية والعقلية.

لا يزال شبح الإبادة، بعد 30 عاماً، يطارد المجتمع الرواندي

ينتمي إيمانويل (68 عاماً) إلى المجموعة باعتباره "مستشاراً". كان مدرّساً وعمدةً لجيتاراما في عام 1994. وحكم عليه بالسجن مدى الحياة لمشاركته في تنفيذ الإبادة الجماعية في منطقته. واختار الإدلاء بشهادته في المحكمة الجنائية الدولية في أروشا من أجل "مساعدة النظام القضائي على إلقاء كل الضوء". ... إنه يدعو زملاءه في الفصل إلى "التحدّث والانفتاح وإخراج كل ما لديك في بطنك". إنه أحد المسارات الضرورية لفهم أفعالنا، والتكفير عن أخطائنا والتصالح مع أنفسنا والآخرين، "يصرّ "الأب" العجوز بصوت مطمئن.

لا يزال شبح الإبادة، بعد 30 عاماً، يطارد المجتمع الرواندي، وسكانه البالغ عددهم 12 مليون نسمة. لقد عاشوا، بالتوازي مع ذلك، سلسلة من المذابح والانتهاكات والانتقام التي ارتكبت قبل الإبادة الجماعية وفي أثنائها وبعدها، ما أدّى إلى مقتل عشرات الآلاف من الهوتو في رواندا والبلدان المجاورة. بعد 30 عاماً، عمل طويل وبطيء للشفاء والمعاشرة يستمر بشكل مؤلم على المستويين الوطني والمحلي. ... "علينا أن ننفتح، ونُخرج كل ما لدينا في بطوننا. إنه أحد المسارات الضرورية لفهم أفعالنا والتكفير عن أخطائنا". إيمانويل المتهم بالإبادة الجماعية، والذي لم ينكر جرائمه، حكم عليه بالسجن مدى الحياة.

أمامنا شغل كثير في سورية، لا يحقّ لنا التأخير، وعلى السلطة الحاكمة أن تقوم بمسؤولياتها قبل كل شيء، أن تعترف وتقتنع وتمارس دورها ممثلة لسلطة تحمي دولة على مسافة واحدة من جميع مواطنيها. وعلى جميع العقلاء أن يعملوا تحت أهدافٍ نبيلة ومؤسّسة: "لن يحدث ذلك مرّة أخرى"، ... نتحدّث عن عواقب الإبادة الجماعية، والعيش معا، والتطلّع إلى مستقبل واحد. علينا جسر الهوّة بين "جبال العنف ووديان البؤس".