اليوغا السوريّة .. منطلق بعثيّ للجهل

اليوغا السوريّة .. منطلق بعثيّ للجهل

18 يوليو 2021

(منى نحلة)

+ الخط -

فشلت المساعي التي يحاول مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، غير بيدرسون، القيام بها، بعد تأكيده على عدم وجود أيّ "تقدّم في المسار السياسي السوري، وتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254، بما في ذلك إيجاد دستور جديد وانتخابات رئاسيّة تدار تحت إشراف الأمم المتحدة"، حسب تصريحاته أخيرا. وبينما ينشغل الرجل في ترتيب موعد لجمع "اللاعبين الأساسيين" في الملف السوري على طاولة حوار، سرحتْ جموع من المواطنين في اللاذقيّة ضمن احتفاليّة "يوغا من أجل السلام"، تحت صورة لبشار الأسد بمناسبة "فوز" الأخير بالانتخابات. إنّه هرج ساخر جديد تطالعنا به وكالة أنباء النظام (سانا)، واصفةً سبب "الحدث" أيضاً بأنّه "من أجل سورية والشعور بطاقة الأمان وجمال الوجود فيها وعن تلاحم أبناء المجتمع السوري".

ليس هناك من تطور في خطاب التدجين الإعلامي، هي ذاتها العبارات البعثيّة التي تستمد مفردة "السلام" من قاموس الطغيان الفكريّ، وإلهاء المجتمع بالصمت والتأمل، ولكم أن تتصوّروا ذاك المقاتل الذي قصف منذ أيام قرى معارضة بالمدفعيّة والصواريخ؛ يجلس في اجتماعٍ تأمليّ، يقوم على "فلسفة" الطاقة الروحيّة (...) وحسب "سانا"، دائماً، فإنّ ذلك كلّه "للخروج من الضغط الاقتصاديّ من خلال التمارين التي تدعو إلى الهدوء العقليّ والنفسيّ والطمأنينة وتقوية جهاز المناعة، وتساعد على الصحة الفكريّة والجسديّة والاجتماعيّة وصولاً إلى الصحة الروحيّة"! هذا الأفيون اللغويّ، إيّاه، المستثمر حديثاً في سورية، بدعم من السفارة الهنديّة في دمشق، وتمويل ضخم من جهاز الدعاية في حزب بشار الأسد، أو البعث.

أي ترفٍ يعيشه السوريّ اليوم في مناطق سيطرة نظام الأسد، حتى يذهب نحو التأمل، وبوصاية أمنيّة تبلورها مشاهد ارتداء قبّعات عليها أعلام الأسد وصوره؟

كان الإعلام السوريّ كثيراً ما يقدّم وجبات التأمل في برامج تلفزيونيّة؛ مثل "طرائف من العالم" وكان يعدّها ويعلّق عليها الراحل محمد توفيق البجيرمي، بصوته الجهوريّ المميز، ومفرداته الداعية، أيضاً، إلى التأمل؛ ولعلّ أشهرها "تأمّل يا رعاك الله" و"ما رأيكم؟ دام فضلكم؟". كان البجيرمي يلتقط أخباره لنشر المعرفة بأسلوب محبّب، بيد أنّه اليوم قد يستخدم عباراتٍ تفوق مرارة التأمل، للنظر إلى حال السوريين، بفقرهم، ودمار مدنهم بانتخابات الدم الإجباريّة، بانهيارهم الثقافيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ، بسقوطهم في متاهات "البعث" وأيديولوجيّات الطائفية الحاكمة، بعد أن خذلهم "اللاعبون الأساسيون"، وما الفرق أصلاً بين هؤلاء الذين يلعبون بمصيرهم ووجودهم على الساحة الدوليّة ومن يسيسون رياضة روحيّة، مثل "اليوغا"، لتنويمهم على موتهم التصاعديّ في اللاذقية والسويداء ودمشق..؟

لقد حوّل حزب البعث، بسبب رقابته المباشرة السوريين، أي فرصة اجتماعيّة، سواء كانت افتتاح معرض فنيّ لمديح "البوط العسكري" وأفضال أمانه، أو فرصة زيارة فنانٍ، موالٍ للغاية، للأطفال المصابين بالسرطان؛ هؤلاء الذين تتاجر بهم جمعيّات قصر المهاجرين في "إنسانيّتها" الطارئة إعلاميّاً فقط. أو حتى افتتاح مؤتمر من نوع "الإصلاح الإداريّ"، والذي عقد أوّل مرة بالفعل، قبل أيّام في دمشق، رافعاً شعار "إدارة فعّالة نحو مؤسسات ديناميكيّة"، وهادفاً، حسب إعلام الأسد، إلى "البحث في الإشكاليّات المشتركة بين كافة الوزارات على مستوى البنية التنظيميّة والموارد البشريّة العاملة فيها (...)"! هو أيضاً تجمّع بعثيّ؛ ربما يسمّونه "مؤتمراً". أمّا اليوغا خاصته فهي بين سطور هذه الدعوات معدومة الخيال، القابعة في مفهوم التجمّع من دون صوت ولا فكر، إنّهم يمثلون التأمل، بمعنى أدقّ، يمثلون الكتمان، وقد تجدهم أفواج خرسان من الوزارات إلى الشوارع، وصولاً إلى الكرنفالات الدينيّة التي تجاور فيها صورة الطاغية معظم العلامات المقدّسة، بوصفه "صمام التأمل"، روسيّ الصنع، وإيرانيّ العقيدة، وبتبعيّة هنديّة خالصة.

التفكير مقتلة، والنقد والاستياء والامتعاض هي ملامح وعي ذاتيّ، دائماً ما يسحقها النظام العسكريّ الطائفيّ

تُرى، أي ترفٍ يعيشه السوريّ اليوم في مناطق سيطرة نظام الأسد، حتى يذهب نحو التأمل، وبوصاية أمنيّة تبلورها مشاهد ارتداء قبّعات عليها أعلام الأسد وصوره؟ الإجابة ببساطة: لأنّ مقدار اليأس في معجزة النهاية يتعاظم بفاتورة البقاء، يضيف عليها فرع "الجرائم الإلكترونيّة" أي حيادٍ سلبيّ يبديه السوريون في الداخل، وتخصم منها فرص الحصول على هروبٍ من تلك القطعان السارحة في مناطق "اليوغا البعثيّة".

يقول المنطق الرقابيّ للنظام على المنصّات الإلكترونيّة: "إنّ أي وهن لنفسيّة الأمة، أو إضعاف للشعور القوميّ" سوف يكلّف ناشره أو داعمه أو من وضع إعجاباً عليه أو كان صديقاً لمن نشره.. أشهراً من الاعتقال في سجون الأسد، مهما كان عنصراً مطيعاً لتعليمات المخابرات والأجهزة التي تدفع له راتبه الدوريّ من "مكرمات القائد"!

ويُستنتج مما سبق أنّ التفكير مقتلة، والنقد والاستياء والامتعاض هي ملامح وعي ذاتيّ، دائماً ما يسحقها هذا النظام العسكريّ الطائفيّ، ويسخّر طاقات أصحابها في الرياضة؛ لتخدير القدرات العقليّة وتمرين الرعيّة على الجري والقفز والسباحة، وأخيراً على التأمّل، لتتم واجبات السيطرة، مع ضمان غياب المقدرة على التفكير وعلى النقد. وأيّ عجبٍ في ذلك، فطوال ستة عقود، لا تكلّ ولا تملّ "دولة البعث" عن المحافظة على استقرار الفرد في طموحاته المعيشيّة البسيطة بعيداً عن السياسة وآذان الحيطان التي تطارد السوريين حتى في منافيهم اليوم.

منذ اخترع النظام في سورية، إبّان وجود المكتب الثاني؛ وهو النواة الأساسيّة للمخابرات السوريّة في ستينيّات القرن الماضي؛ وجود كيان الحزب الواحد، ومنطلقات هذا الحزب المجمّدة تستمدّ معطياتها "الفكريّة" فقط من العسكر والطاغية، ولكن اليوم ظهر تطوّر جديد على مستوى "أفكار" حزب البعث الأسديّ؛ وهو نمو "منطلق التأمّل" في كلّ شيءٍ يصنعه النظام، كلّ خطوةٍ تغرس جذوره أكثر في التراب السوريّ المدمّى، من خرابٍ وقصفٍ وخناق حريّات ومصادرة أرواح واحتلال أراضي المعارضين، تأمّل اسمه "اليوغا السوريّة" بتوقيع الجهل أو حزب البعث، فـ "ما رأيكم، دام فضلكم؟!".