اليمن .. سياسات الإنهاك واقتصاد الإفقار

اليمن .. سياسات الإنهاك واقتصاد الإفقار

23 اغسطس 2021
+ الخط -

لا تحقق السياسات الاقتصادية اللامسؤولة سوى مزيدٍ من الخراب، إذ إنّ زجّ الاقتصاد في الحرب سلاحٌ غير مأمون العواقب، له تداعياته التي لا يمكن السيطرة عليها. وهذا ما ينطبق على معارك أطراف الصراع في اليمن، حيث وظفت الاقتصاد ورقة للضغط على خصومها، لكنه لم يحقق أهدافها السياسية، بل أفضى إلى تشظّي الاقتصاد الوطني ومفاقمة معاناة اليمنيين. وبدلاً من معالجة تبعات سياستها، فإنها دشّنت سياسات موجهة وأخرى مضادّة قد تقضي على ما تبقى من أشكال الحياة المستقرّة لليمنيين.
يشكل قرار نقل البنك المركزي اليمني إلى مدينة عدن إحدى السياسات الاقتصادية الموجهة التي أدّت إلى انقسام المؤسسة المالية والنقدية في اليمن، بحيث أضرّت بمصالح المواطنين. ومع مراهنة السلطة الشرعية على هذا الإجراء لتقييد جماعة الحوثي وحرمانها من إيرادات البنك لتمويل حروبها، وكذلك الضغط على البنوك بنقل مقرّاتها الرسمية إلى مدينة عدن، مقابل تأكيد سيطرة الشرعية على موارد الدولة، فإن جماعة الحوثي، وإن فقدت جزءاً كبيراً من الموارد التي كانت تصل إلى المركزي في صنعاء، إلا أنها أوجدت قنواتٍ اقتصادية لتعزيز مواردها، من خلال السيطرة على إيرادات المؤسسات في مناطقها، كما استفادت من اعتراف المجتمع الدولي بمؤسساتها الاقتصادية كجزء من تطبيع الحياة في ظل حالة الطوارئ التي تعيشها صنعاء. ومن ثم لم يؤثر نقل البنك المركزي على سلطة الجماعة، وإنما أثر سلباً على حياة أكثر من مليون موظف حكومي، حرموا من رواتبهم نتيجة هذا القرار. في المقابل، فشلت السلطة الشرعية، بعد أكثر من خمس سنوات على نقل البنك، في إجبار سلطات الأمر الواقع على توريد الأموال إلى خزائنه، بما في ذلك ضمان استقلالية البنك المركزي الذي تعاقب عليه ثلاثة مُحافظين، فقد تحوّل هو الآخر إلى مشكلة نتيجة سياساته الاقتصادية العشوائية، وفي حين تجاهلت السلطة الشرعية معالجة تلك الاختلالات وتبعاتها على الحياة الاقتصادية ومعيشة المواطنين، فإنها طبعت عملة جديدة، نتج عنها تكريس حالة الانقسام الاقتصادي بين المناطق الخاضعة لها والمناطق الخاضعة للجماعة، ونشوء اقتصاد طُفيلي يستفيد من فارق سعر العملة القديمة والجديدة، بما في ذلك سعر الدولار والمضاربة به، وكذلك رفع رسوم التحويلات النقدية إلى أكثر من 70%، فيما لجأت جماعة الحوثي إلى خطواتٍ مضادّة أضرّت بمصالح المواطنين، حيث منعت تداول العملة الجديدة في مناطقها، في مقابل تثبيتها سعر العملة القديمة مقابل الدولار، فيما فشلت السلطة الشرعية في تثبيت سعر العملة الجديدة التي وصلت إلى حدود الألف ريال مقابل الدولار، بينما وجهت سياستها الاقتصادية لخوض معركة جديدة، وإن أتت تحت لافتة وقف انهيار العملة، إلا أنها سلاح ذو حدّين.

افتقار السلطة الشرعية الفاسدة إلى السيادة على القرار الاقتصادي لصالح لاعبين إقليميين ومحليين، يجعلها غير قادرة على تثبيت سعر العملة المحلية

أعلن البنك المركزي في عدن، في نهاية يوليو/ تموز المنصرم، طبع العملة النقدية القديمة فئة الألف ريال بطبعة جديدة وضخّها في جميع المناطق، بما في ذلك الخاضعة لسلطة جماعة الحوثي، إضافة إلى قرار الحكومة المعترف بها دولياً تحريك الدولار الجُمركي، إلى جانب قيام المركزي اليمني بحملة إغلاق مئات من شركات الصرافة في المناطق الخاضعة للشرعية، ووضع شركات صرافة عاملة في صنعاء في القائمة السوداء، مقابل إنذار البنوك بنقل مراكزها الرئيسية من صنعاء إلى عدن. وهدفت السلطة الشرعية من هذه الإجراءات إلى توفير احتياطات من النقد الأجنبي لتغطية انكشاف العملة، سواءً من اعتمادات البنوك أو من الرسوم الجُمركية، وكذلك تقليص فرق سعر العملة المحلية مع المناطق الخاضعة للجماعة، بما في ذلك تجفيف الاقتصاد القائم على المضاربة بالعملة، فضلاً عن إجبار جماعة الحوثي التعامل بالطبعة الجديدة بدلاً عن فئة الألف ريال للعملة القديمة، وكذلك الضغط على التجار في مناطقها باستيراد البضائع بسعر الدولار الجمركي الجديد، إلا أن نتائج هذه الإجراءات قد تقضي على ما تبقى من الاستقرار في المناطق الخاضعة لها، فإضافةً إلى المشكلات المترتبة على انقسام المؤسسات الاقتصادية والنقدية التي ضاعفت من إفقار المواطنين وأضرّت مصالحهم، فإن افتقار السلطة الشرعية الفاسدة إلى السيادة على القرار الاقتصادي لصالح لاعبين إقليميين ومحليين، يجعلها غير قادرة على تثبيت سعر العملة المحلية، فضلاً عن الإجراءات المضادّة التي قد تتخذها جماعة الحوثي.

امتلاك الدول المتدخلة للقرار الاقتصادي جعل السلطة الشرعية مرتهنةً لسياساتها، ما حرم البنك المركزي من احتياطات نقدية بالعملات الأجنبية

السلطة التي لا تملك قرارها الاقتصادي لا تملك قرارها السياسي، ويتجلى ذلك في إدارة مؤسساتها المالية والنقدية، بما في ذلك استقرار العملة المحلية، وإذا كان تسرّب موارد الدولة لصالح القوى المحلية الموالية للسلطة الشرعية والقوى العميقة في الدولة، بما في ذلك القوى المنافسة لها، قد ضاعف عجزها الاقتصادي، فإن امتلاك الدول المتدخلة للقرار الاقتصادي جعل السلطة الشرعية مرتهنةً لسياساتها، إذ ترتب على استمرار منع السعودية تصدير البترول اليمني، وكذلك سيطرة الإمارات على منشأة بلحاف الذي أعاق تصدير الغاز اليمني، حرمان البنك المركزي من احتياطات نقدية بالعملات الأجنبية، كانت ستسهم في تغطية انكشاف العملة المحلية. ومن جهة ثانية، ارتهنت السياسة الاقتصادية للسلطة الشرعية لإملاءات حليفها السعودي، إذ مثّلت الوديعة السعودية الغطاء النقدي الرئيس لاستقرار العملة اليمنية، بحيث ارتهنت الشرعية لاشتراطات حليفها، وهو ما جعل السوق الاقتصادية في مناطق الشرعية خاضعة للقوى الإقليمية واستقطاباتها السياسية، مقابل سيطرة جماعة الحوثي على السوق الاقتصادية في المناطق الخاضعة لها. ومن جهة ثالثة، ساهمت المشكلات البنيوية في تركيبة السلطة الشرعية في انهيار العملة، إذ تفتقر السلطة المكونة من قوى سياسية متصارعة لسياسة اقتصادية موحدة تضبط العملة المحلية، إضافة إلى تراكم فشل الحكومات السابقة، وكذلك انخراط هذه القوى باقتصاد الحرب القائم على المضاربة بالدولار، تماماً كجماعة الحوثي، بما في ذلك الفساد العميق في مرافق الدولة ومؤسسات السلطة الشرعية، وكذلك منظومة البنك المركزي المتزعزعة، الأمر الذي أعاق تثبيت سعر العملة. ومن جهة ثالثة، تشكّل سلطة المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات سبباً آخر في انهيار العملة المحلية، نتيجة تضارب السياسة الاقتصادية بين الحكومة والمجلس الانتقالي الذي لم يكتف بتعطيل الحكومة التي هو مشارك فيها، والتنصّل من مسؤوليته، بل مارس دوراً تنفيذياً، عبر اتخاذه هو الآخر إجراءات اقتصادية، سواء بتحديد سقف المبالغ التي يحوّلها المواطنون في مدينة عدن إلى المناطق الخاضعة لجماعة الحوثي أو إغلاق محلات مصرفية منافسة له، وكذلك تشكيل لجنة مدفوعات، ومن ثم فإن تعدّد الفاعلين السياسيين الذين هم فاعلون اقتصاديون، يعيق محاولات انتشال العملة من انهيارها التاريخي.

ساهمت السلطة التي هدفت إلى القضاء على اقتصاد الحرب القائم على الفرق بين سعر العملتين بإنشاء فرع جديد من اقتصاد الحرب

السياسات الاقتصادية تفتقر إلى أهداف وطنية معنية بحياة المواطنين، بحيث تكون نتاج بيئة طبيعية مستقرّة، تديرها سلطة لا تخضع لإملاءات الخارج لا يمكن التعويل عليها، عدا عن أنها تنكيل مضاعف بالمواطنين، ففيما تطرح إعادة السلطة الشرعية طبع فئة الألف الريال من العملة القديمة جدوى طباعتها عملة جديدة في المقام الأول، والأهداف التي حققتها، فإنه لا يمكن التكهن بنتائج الإجراءات الاقتصادية الجديدة، فإضافة إلى ما قد يترتب عليه في حال إغراق المناطق الخاضعة لسلطة الشرعية بطبعة الألف الريال للعملة القديمة، والتي قد تفضي إلى تضخم السوق النقدية وتدهور العملة المحلية، فإن النتيجة الآنية نشوء اقتصاد حرب جديد في المناطق الخاضعة لها، ناتج عن شراء طبعة العملة الجديدة من فئة الألف. وبالتالي، ساهمت السلطة التي هدفت إلى القضاء على اقتصاد الحرب القائم على الفرق بين سعر العملتين بإنشاء فرع جديد من اقتصاد الحرب، لا تدعمه جماعة الحوثي فقط التي لا تمتلك قوة مالية تمكنها من ذلك، وإنما دولة إقليمية متدخلة. ومن جهة أخرى، تتضاعف مخاطر تحريك الدولار الجُمركي الذي حدد سعر صرف الدولار بـ500 ريال، بعدما كانت الرسوم الجمركية بالسعر القديم، بحيث قد يؤدّي هذا الإجراء إلى أزمة إنسانية مضاعفة، فعلى الرغم من تطمين مسؤولي الحكومة بأن تحريك الدولار الجُمركي سوف يقتصر على السلع الكمالية، ولن يشمل السلع الضرورية، فإن ضعف الحكومة وغياب الرقابة لا يشكل ضماناً يمكن الوثوق به، فضلاً عن أن تحريك الدولار الجُمركي لا يعني فقط تدمير القطاع الخاص الهشّ، بل الإضرار بالحركة التجارية في ميناء عدن التي قد ينتج عنها عزوف التجار إلى موانئ إقليمية أخرى، فبدلاً من تكبدهم دفع رسوم إضافية في جمارك عدن، فإنهم سيلجؤون إلى التجارة عن طريق البر عبر المنفذ العُماني، الأمر الذي سيترتب عليه ازدهار ميناء صلالة، أو غيره من الموانئ الإقليمية القريبة، مقابل تدهور ميناء عدن.

تحريك الدولار الجُمركي في مناطق الشرعية سوف يؤدّي إلى رفع أسعار المواد الغذائية في عموم مناطق اليمن، بما في ذلك الخاضعة لسلطة الجماعة

إلى ذلك، فإنّ جماعة الحوثي التي تسيطر على المؤسسات النقدية والمالية في المناطق الخاضعة لها، والتي تقوم سياستها الاقتصادية الموجهة على امتصاص موارد الدولة، إضافة إلى الضرائب والإتاوات غير القانونية، لا تعنيها سياسة السلطة الشرعية الموجهة لتقييد سلطتها إلا بمقدار تكييفها هذه الإجراءات لخدمة مصالحها في نهب المواطنين، فإضافة إلى منعها طبعة الألف الجديدة في مناطقها، واعتبارها مزوّرة، وفرض عقوبات على المخالفين، فقد أعلنت إجراءات مضادة، ووجه البنك المركزي - فرع صنعاء، بضم قائمة من أسماء المصارف في مناطق الشرعية، والتي لها فروع في مدينة صنعاء، ومنعها من مزاولة نشاطها، ردّاً على قرار البنك المركزي - فرع عدن، الأمر الذي يعني الإضرار بمصالح المواطنين. كما أن تحريك الدولار الجُمركي في مناطق الشرعية سوف يؤدّي إلى رفع أسعار المواد الغذائية في عموم مناطق اليمن، بما في ذلك الخاضعة لسلطة الجماعة.
في معارك الاقتصاد الدورية بين سلطة فاسدة تُدار من الخارج وجماعة لا تقل عنها بؤساً، يتجاهل سماسرة سلطات الأمر الواقع أن هناك طرفا ثالثا في هذه المعادلة البغيضة، وهم المواطنون المغلوب على أمرهم الذين طحنتهم سبع سنوات عجاف من حربٍ بلا نهاية، فيما تأتي سياسة تقسيط الموت عبر سياسات اقتصادية عمياء، تغتصب قوتهم بكل الطرق اللامشروعة، وهي الآن، وبلا ضمير أيضاً، تخترع طرقاً جديدة لإبادتهم.