اليسار وذهنية الإنكار

اليسار وذهنية الإنكار

30 يوليو 2022

(بول غيراغوسيان)

+ الخط -

منذ سنة تقريباً، وبالتحديد في 26 يوليو/ تموز 2021، أي بعد يوم من إعلان الرئيس التونسي قيس سعيّد "التدابير الاستثنائية"، التي أقال بموجبها الحكومة وأزال الحصانة عن النواب مقدمةً لتجميد عمل البرلمان ووقف العمل بالدستور، يومها استيقظتُ باكراً لأنهي بعض الأعمال، وعرَّجت في النهاية على أحد الأصدقاء الذي كان يشرب الشاي برفقة صديقٍ آخر. استقبلني قائلاً والبهجة تملأ وجهه: "البارحة أصدر الرئيس التونسي قرارات سيضرب بها الإسلاميين"، وقبل أن يكمل كلامه سألته: "سيضرب الإسلاميين أم سيبدأ بالإسلاميين؟". وكما كل يساري لا يعرف أن ضرب الإسلاميين، أو أي فصيل سياسي آخر، ليس سوى مقدمة لضرب الفرقاء الآخرين والانقضاض على الحريات والحقوق والقانون والدستور، وصولاً إلى تفريخ ديكتاتورٍ جديد من بين الرمال.

تجمَّدَتْ ملامحه عندما استفضتُ بإبداء رأيي وتوقعاتي، ثم أخذ نفساً عميقاً من سيجارته ونَفَسَها في وجهي وهو يتفرَّس فيه محاولاً تكوين تصوُّرٍ عن هذا الذي أمامه والذي لا يبتهج بضرب الإسلاميين. ربما كان وقتها يتساءل في سرّه: "ما التحولات الذي طرأت عليه؟". وربما سأل نفسه معاتباً: "لماذا لم ألاحظ تحولاته هذه باكراً حتى أخرجه من إطار علاقاتي فلا ينغِّص عليَّ فرحتي ويهدم لذاتي؟". لم أتيقن مما إذا كان يستمع لي بينما كنت أفصحُ عن مخاوفي من تحوُّل تونس إلى دولة ديكتاتورية، لأن "تدابير" سعيِّد ستقود بكل سلاسة إلى ذلك.

يبدون مغلَّفين بغلافٍ من الجمود الفكري الذي لم تنفع نداءات كارل ماركس عن أهمية "الجدل المادي" و"دراسة الظاهرة بكليتها" في تليينه

تكرّر الأمر مع هذا الشخص عندما غزَت روسيا أوكرانيا، وتكرّر مع آخرين من حمَلة الفكر اليساري. لكن النقاش، هذه المرّة، كان يقود إلى نتائج غير محمودة من نوع التهجم والتخوين وقطع العلاقات. أما ما كان يدعو إلى الشفقة والحزن على هؤلاء، فهو أنهم يبدون مغلَّفين بغلافٍ من الجمود الفكري الذي لم تنفع نداءات كارل ماركس عن أهمية "الجدل المادي" و"دراسة الظاهرة بكليتها" في تليينه. ربما لأن الجدل، برأيهم، هو النقاش بين المتماثلين والمنسجمين للوصول إلى الراحة والسعادة القصوى، وليس ذلك البحث في الواقع المادي والتحليل الاقتصادي للوصول إلى فهم الظاهرة، ولا النقاش بين المتخالفين في الرأي الذي لا يجلب سوى الغمّ ويزيد الثقل على الصدور. وكانت المصيبة الأكبر عندما خرج أحدهم بخطابٍ تخريفي تبنّاه آخرون، يقول إن الماركسي الذي يسمّي "العملية العسكرية الروسية الخاصة" في أوكرانيا "غزواً" أو "اجتياحاً"، ليس سوى صاحب فكرٍ تحريفي. هكذا، وبكل بساطة، تبخَّرت المبادئ التي كان ينادي بها هؤلاء، والتي منها الحق المقدس؛ حق الشعوب في تقرير مصيرها، وتبخَّر رفضهم انتهاك القانون الدولي، ودعواتهم اتباع المفاوضات في حل النزاعات بين الدول.

هل، يا ترى، فقدَ هؤلاء، وكثيرون غيرهم ممن تبنّوا وجهة نظر روسيا في ما يخص خلافها مع أوكرانيا، ثم تأييدهم غزوها هذا البلد، هل فقدوا مفردات الماركسية وتلك المبادئ؟ هل، يا ترى، نزع تأييدهم السلطويات والديكتاتوريات التي يعوّلون عليها لضرب خصومهم الإسلاميين أو غير الإسلاميين، إيمانهم ببديهياتٍ كانوا يناضلون لأجلها ويحلمون بتحقيقها في مجتمع الوفرة والخلاص من أسر المادة؟ بديهيات تتعلق بالمطالب وتحقيق الأحلام؛ أحلام الحرية والحقوق والمواطنة وحق التفكير والاختلاف في الرأي، وضرورة انعتاق الإنسان وتحرّره من حاجاته ومن كل سلطةٍ سوى سلطة العقل، والمجتمع المتحرّر من الفقر والحروب والاستغلال، والتي كانوا يردّدونها في بداية كل نقاش، كما يردّد غيرهم سورة الفاتحة. ألم يكن السلام والورد والسنابل نشيدهم اليومي، ونزع الأسلحة وبناء المدارس والمشافي، بدلاً من القواعد العسكرية، هي أحلامهم؟

النكران أعمى عقولهم، وجعلهم لا يصدّقون أن روسيا دولة رأسمالية

واضحٌ أنهم لم يفقدوا هذه المفردات من قواميسهم، لكنه الإنكار، إنكار ما لا يتطابق مع حلمهم الانتهازي، بأن تضرب سلطة ديكتاتورية خصومهم، بدلاً من أن يحاججونهم. إنكار أن من ينقضّ على خصمك، سينقضّ عليك. ولن نستعير من ماركس البيِّنات على هذا، بل نعود إلى قصة الثور الذي جعلته أنياب الأسد يصرخ من الألم في نهايتها قائلاً حكمته واستنتاجه المتأخر: "أُكِلتُ يومَ أُكِلَ الثور الأبيض". هكذا حدث مع بعض اليساريين في تونس، الذين أخطأوا في قراءة الواقع والوقائع التي استجدت بفعل تدابير قيس سعيّد، حين صدّقوا خطابه الشعبوي، الذي ألمح فيه إلى أن هدف تجميد عمل البرلمان الحد من سلطة الإٍسلاميين.

النكران هو ذاته الذي أعمى عقولهم هم أنفسهم، وجعلهم لا يصدّقون أن روسيا دولة رأسمالية. وربما، إذا ما عدنا إلى تحليلات رفيقهم لينين وكتاب "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية"، لرأينا كيف باتت روسيا دولة إمبريالية أعادت إحياء الاستعمار القديم. غير أن هذا الأمر لا يتوقف عند فعل الإنكار المعنوي، له تداعيات مكلفة، ومميتة في حالات كثيرة، إذا ما جرى التعاطي معه بانعدام مسؤولية وقصور في الرؤية. لقد دخل هذا النكران مرحلة الخطورة، حين جعل تونس، على سبيل المثال، تتخبّط سنةً في تهويمات سعيِّد، يوزّع خلال هذه السنة اتهاماته وتهديداته في كل الاتجاهات، من دون أن يسمّي أحد المتربصين بالبلاد أو من يداهمها بأخطاره أو يعيث فيها الفساد، ويقدّمه للمحاسبة. سنة جعلت تونس تتراجع على الصعد، الاقتصادية والتعليمية والأمنية، والأخطر هدّدت أمنها الغذائي بعد شلل مؤسسات الدولة وتراجع احتياطها النقدي. سنة كاملة إلى أن استفاق هؤلاء، وتيقّنوا أن تلك المقدّمات قد قادت إلى هذه النتائج، وأن سعيّد أسس دكتاتوريته على أنقاض دستور بلادهم القديم.

بات الأمر يتجاوز الموقف السياسي والانقسام السياسي والاصطفاف مع هذا أو ضده، ليقارب مسألة الأخلاق

والخطورة تجلت أيضاً في أن "العملية العسكرية المحدودة" التي قال القادة الروس إنها لن تتعدّى فترة أسبوعٍ، تتكلّل بخلع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنكسي، تحوّلت إلى حرب استنزاف لروسيا، وجلبت لها آلاف العقوبات الاقتصادية، أفقدتها أسواق الطاقة وأبعدتها عن النظام المالي العالمي، وكبدتها خسارات بمئات مليارات الدولارات، وعزلتها عن العالم. وفي مرحلة لاحقة، عندما تتوثق الجرائم بحق الشعب الأوكراني، وجرائم الحرب، ستجلب لها العار الذي قد يعلق بسمعتها لأجيال. ولم يتوقف الأمر على هذا فحسب؛ إذ هدّدت البشرية بعد وصول مجتمعاتٍ إلى حافّة المجاعة بسبب تداعياتها على تصدير الحبوب.

في هذا السياق، بات الأمر يتجاوز الموقف السياسي والانقسام السياسي والاصطفاف مع هذا أو ضده، ليقارب مسألة الأخلاق، أخلاق يحدِّدها موقفك من الحرية والاستبداد، وكذلك من الحرب التي عندما تندلع "تذهب الأخلاق إلى الجحيم"، وتتحدّد بالتالي مواقفك؛ أتقف مع الحرب والدمار والدماء، أم مع الإنسانية والأخلاق؟

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.