اليابان وحرب أوكرانيا .. كسر التابوهات

اليابان وحرب أوكرانيا .. كسر التابوهات

25 ابريل 2022

من احتجاج على الحرب الأوكرانية أمام السفارة الروسية في طوكيو (20/4/2022/Getty)

+ الخط -

إلى جانب أزمة عميقة الجذور بشأن علاقتها مع روسيا، ظلت الصين بالنسبة لطوكيو مصدرا أول للخطر، وبذلت الأخيرة، طوال عقد، جهودا لإبعاد روسيا عن الصين. وعبر سلسلةٍ من اجتماعات قمة عقدها رئيس وزراء اليابان السابق، شينزو آبي، مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ووعود باستثمارات يابانية كبيرة للمساعدة في إنعاش اقتصاد الشرق الأقصى بما فيه روسيا، أمل آبي باتفاق على معاهدة سلام ثنائية تعيد إليه جزءا على الأقل من جزر الكوريل (جزر الشمال بحسب اليابان)، وتنهي بشكل رسمي الأعمال العدائية التي تعود إلى الحرب العالمية الثانية. ومع أنّ تلك الاستراتيجية أثبتت عدم جدواها منذ ما قبل الحرب، إذ لم تظهر موسكو أبداً أي نية لإعادة الأراضي، علاوة على استمرار التقارب الصيني الروسي، بقي خلفاء آبي متأثرين باستراتيجيته للأمن القومي، إلا أن الغزو الروسي لأوكرانيا، ورفض بكين التخلي عن شريكها الروسي، غيّرا الكثير من أهداف السياسة الخارجية طويلة الأمد، وقلب رأساً على عقب تطلع اليابان إلى شراكة مع روسيا تدفع خطراً صينياً. وبدا السياسيون اليابانيون أكثر اقتناعاً بوجوب التعامل بصرامة مع روسيا، وإلّا قد تعتقد الصين أنّها تستطيع الإفلات من أشياء مماثلة؛ تايوان.
دان رئيس الوزراء الحالي، فوميو كيشيدا، "الحرب العدوانية الروسية"، ووجد في استخدام القوة لتغيير الحدود "تحدّياً للنظام الدولي". جاءت العواقب سريعاً حين اخترقت طائرة هليكوبتر، حدّدتها طوكيو أنّها روسية، المجال الجوي الياباني، وعلّقت موسكو، في 21 مارس/ آذار الماضي، محادثات السلام مع اليابان بشأن الكوريل. وعلى الرغم من أنّ طوكيو أقل اعتماداً على موارد الطاقة الروسية (تستورد 4% فقط من نفطها و9% من غازها الطبيعي من روسيا) مقارنة بأوروبا، فهذا لا يعني المغامرة بقطع العلاقات كلياً، إذ بقيت هناك مشاريع رئيسية للطاقة، من ذلك أنّ شركتي ميتسوي اليابانية والمؤسسة الوطنية للنفط والغاز والمعادن اليابانية (جوجميك) تستثمران في المرحلة الثانية المخطط لها من مشروع الغاز الوطني المسال في القطب الشمالي، بدعم من شركتي نوفاتيك الروسية وتوتال إنرجي الفرنسية. كما تمتلك "ميتسوي"، وإحدى الشركات التابعة لـ"ميتسوبيشي" أيضًا، حصة في مشروع سخالين 2 للنفط والغاز إلى جانب "شل" و"غازبروم" الروسية الحكومية. تظلّ الحسابات الاقتصادية لليابان أقل تعقيداً من حساباتها الأمنية، إذ يدفعها غزو أوكرانيا إلى التخفيف من الموقف الدفاعي السلمي الذي فرض عليها منذ 1945. لكنّ تحوّلات جوهرية على هذا الصعيد تحتاج وقتاً.

لم تتردّد طوكيو في الانضمام إلى حلفائها الغربيين لفرض حزم العقوبات على روسيا، وسعت إلى أن تظهر في مجموعة السبع شريكاً جديراً بالثقة

عندما ضمّت موسكو شبه جزيرة القرم العام 2014، بدا الأمر لطوكيو مشكلة غربية، ومع أنّها فرضت على مضض عقوبات رمزية على موسكو، بقيت استراتيجية الأمن القومي الياباني، المتبنّاة في عهد آبي منذ العام 2013، تطالب بـ"تعزيز التعاون مع روسيا في جميع المجالات" من أجل "الأمن والسلام والاستقرار في منطقة آسيا والمحيط الهادئ". بعد اندلاع الحرب، بدأت وسائل الإعلام اليابانية الحديث عن استراتيجية أمنية جديدة لا تشير إلى روسيا "شريكاً" بل تراها "تحدّياً أمنياً". اليوم لم تتردّد طوكيو في الانضمام إلى حلفائها الغربيين لفرض حزم العقوبات على روسيا، وسعت إلى أن تظهر في مجموعة السبع شريكاً جديراً بالثقة. حتى الجمهور الياباني لم يتمسك هذه المرة بمنطق "ما يحدث في الأراضي البعيدة ليس مشكلتنا"، إذ بيّن أحد استطلاعات الرأي (استطلاع "يوميوري") أنّ 80% من المستجيبين يوافقون على فرض عقوبات على روسيا لشعورهم أن السماح لها بالاستيلاء على الأرض بالقوة يمكن أن يشجّع الصين على فعل الشيء نفسه في آسيا. تعيد اليابان النظر في استراتيجيتها الخاصة بالأمن القومي، رغم أنّنا لا نشهد ذلك النوع من "الثورة الأمنية" التي تشهدها ألمانيا. 
نزاعات اليابان مع كل من الصين وروسيا على الأراضي مستمرّة، ورداً على تهديد صيني متعاظم تتصوّره، سرّعت اليابان من وتيرة نقل وإنشاء قواعد عسكرية في جزيرتي يوناجوني وإيشيجاكي، وأخرى قريبة منهما، لمراقبة النشاط الصيني في المنطقة عن كثب والتصدّي لأيّ خطر محتمل. لكنّ تلك القدرات الدفاعية اليابانية تبقى متواضعة أمام مقدّرات القوات الصينية التي أجرت العام الماضي مع روسيا ما وصفت بأنها "أول دورية بحرية مشتركة" في غرب المحيط الهادئ. وعلى الرغم من أنها جرت في المياه الدولية اعتبرتها اليابان، التي راقبت المناورات عن كثب، بأنّها "غير عادية". لعقود بعد الحرب العالمية الثانية، منع الدستور الياباني طوكيو من بناء قواتها العسكرية، لكن اليابان، في السنوات الأخيرة، زادت من إنفاقها العسكري، وأعلن كيشيدا، في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أنّ الحكومة تبحث خياراتٍ لمنحها "القدرة على ضرب قواعد العدو"، وخصّصت اليابان للعام 2022 ميزانية دفاعية قياسية، بلغت 47.2 مليار دولار، متجاوزة بذلك 1% من ناتجها المحلي الإجمالي. التمويل الدفاعي الإضافي هو مجرّد جانب واحد من جوانب درع اليابان ضد تصعيد التوترات الإقليمية، حتى أنّ صاحب استراتيجية التقارب مع روسيا؛ رئيس الوزراء السابق شينزو آبي، الذي لا يزال شخصيةً فاعلةً في الحزب الليبرالي الديمقراطي، تخلى عن تلك الاستراتيجية بعد ثلاثة أيام من الغزو الروسي، ليطرح فكرة بديلة، مفادها استضافة أسلحة نووية أميركية على الأراضي اليابانية.

لا خيارات لدى اليابان لتوفير متطلبات أمنها الإقليمي سوى كسر التابوهات، طالما تبدأ الحروب

كان اقتراح آبي صادماً لبلد عانى من التأثير المدمر لقنبلتين ذرّيتين، لكنّ آبي لم ينس حثّ اليابانيين على عدم التعامل مع هذه المناقشات بوصفها تابوهات، وهو ما رفضه رئيس الوزراء الحالي كيشيدا. لم ينس أيضاً أنّ يدعو الإدارة الأميركية إلى اتخاذ موقف أكثر وضوحًا بشأن الدفاع عن تايوان، وما إذا كانت ستدافع عن الجزيرة المتمتعة بالحكم الذاتي إذا شنّت بكين هجوماً أم لا. تقع اليابان ضمن المظلة النووية للولايات المتحدة، لكنّها استبعدت، منذ فترة طويلة، استضافة أسلحة نووية بسبب الدمار الذي تعرّضت له خلال الحرب العالمية الثانية. ومع أنّ الولايات المتحدة تؤكد أن سنكاكو، الجزيرة المتنازع عليها مع الصين (تسميها دياويو)، تخضع لمعاهدة الدفاع المشترك بين الولايات المتحدة واليابان، إلا أنّ موقفها بخصوص تايوان (جنوبا في المياه المستخدمة لنقل 90 % من إمدادات النفط اليابانية) يبدو أقلّ حسماً، ففي العام الماضي أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن أنّ الولايات المتحدة ستدافع عن تايوان إذا تعرّضت لهجوم صيني، إلّا أنّ مسؤولاً حكومياً عقّب، في وقت لاحق، أنّ ذلك لا يعني تخلّي واشنطن عن سياستها في "الغموض الاستراتيجي".
أثار الغزو الروسي لأوكرانيا قلقاً عميقاً في اليابان، وأجبرها على الإجابة عن أسئلة طالما تجنبتها. جاء ذلك تحت وطأة غزو بوتين أوكرانيا وتهديده بالأسلحة النووية، والنووي الكوري الشمالي، وتعزيز الصين وجودها العسكري حول سينكاكو، وتأكيدها تناسبه و"الحق السيادي للصين"، ورفض الرئيس الصيني، شي جين بينغ، استبعاد القوة للاستيلاء على تايوان، في مقابل "غموض استراتيجي" أميركي. لقد وضعت أسابيع من الحرب في أوكرانيا هذه المنطقة في آسيا في وضعية تأهب، مع رفض الصين الرضوخ للضغوط الدولية لإدانة تصرّفات موسكو، ورفضها المقارنة بين أوكرانيا وتايوان، بوصف الأخيرة "شأناً داخلياً للصين بالكامل". ولا خيارات لدى اليابان لتوفير متطلبات أمنها الإقليمي سوى كسر التابوهات، طالما تبدأ الحروب "عندما تعتقد الحكومات أنّ ثمن العدوان رخيص" كما قال يوماً رونالد ريغان.

حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.