الولايات المتحدة و"لعنة القوة العظمى"

الولايات المتحدة و"لعنة القوة العظمى"

28 يناير 2022
+ الخط -

من دون الخوض في تفاصيل الأزمة الأوكرانية ومستجدّاتها، ما نشهده الآن تعبيرات عن إزاحات جيوسياسية كبرى، قد تفضي إلى نظام عالمي جديد، ينهي عصر الأحادية القطبية الأميركية الذي ساد منذ مرحلة ما بعد الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي، مطلع تسعينيات القرن الماضي. كذلك، قد تقود هذه الإزاحات إلى حربٍ كونية ثالثة، أكثر تدميراً من سابقتيها. خصوم الولايات المتحدة، وتحديداً روسيا والصين، على قناعةٍ بأن قوتها وهيمنتها الدولية في طور تراجع، وهم مصرّون على إعادة صياغة النظام العالمي وتغيير طابعه ومعادلاته التي حابت الأميركيين عقوداً طويلة. واليوم، تجد واشنطن نفسها أمام تحدٍّ غير مسبوق، فخصومها يبدون متفقين على استنزاف قوتها، فيما تتراجع ثقة حلفائها بها، والأدهى أن الخلافات والانقسامات تتفشّى وتتعمّق في الداخل الأميركي. هل هي لعنة القوة الأعظم التي تتمدّد ما وراء إمكاناتها وقدراتها، مدفوعةً بنشوة القوة، لتكتشف بعد ذلك محدوديتها، مهما عظمت؟ أم هي الشيخوخة؟ أم أنها فرصة لصحوة ضرورية، وإعادة تنظيم استراتيجي للإمكانات والأولويات؟ من الصعب تقديم إجابة حاسمة الآن.

في كل الأحوال، قد تكون أميركا تعيش مرحلة لعنة القوة الأعظم فعلاً، فالقوة الهائلة، خيّرة كانت أو شريرة، ترتب مسؤوليات على صاحبها. وفي حال الولايات المتحدة، فإنها مطالبة اليوم بأن تصارع على أكثر من جبهة عالمية، دع عنك أزمتها الاقتصادية، بنيوياً وهيكلياً. والأهم تشرذم نسيجها السياسي والاجتماعي داخلياً، بشكلٍ أصبح من الصعب تحقيق إجماع معه، أو حتى غالبية أميركية وراء أي موقف. كل شيء أصبح مسيّساً في الولايات المتحدة في العقدين الأخيرين، حتى مصالحها الاستراتيجية، وبشكل أكثر كثافةً وخطورةً في السنوات الخمس الماضية. من السهل جداً أن نلوم هنا الرئيس السابق، دونالد ترامب، وشعبويته، لكن الحقيقة أن ترامب وفوضويته وسفاهاته، التي تتبناها قاعدة شعبية عريضة، ما هم إلا تعبير عن إمبراطورية هائلة تتفكّك داخلياً، بشكل تدريجي، وتعيش حالة من التوهان الاستراتيجي وغياب الهدف والدافعية للانطلاق نحو الأمام. إنها من علامات الشيخوخة، سواء استحكمت في أميركا راهناً، أو لا يزال من الممكن تفاديها وإعادة تجديد شباب القوة. فالولايات المتحدة، على الرغم من كل شيء، ما زالت قوة عظمى، وتملك إمكانات وقدرات لا يمكن أبداً التهوين منها. لكن هل توجد إرادة وقدرة على تحقيق ذلك؟ هذه أيضاً مسألة تحتاج بحثاً آخر أعمق وأوسع.

يدرك الأميركيون أن بوتين يريد إعادة عقارب الخرائط الجيوستراتيجية والجيوسياسية ثلاثة عقود إلى الوراء

عودة إلى مسؤوليات القوة الأميركية عالمياً ولعنتها. في الأزمة الأوكرانية، تجد واشنطن نفسها مطالبة بالتصدّي لخصم عملاق وقوي. يدرك الأميركيون أنّ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يريد إعادة عقارب الخرائط الجيوستراتيجية والجيوسياسية ثلاثة عقود إلى الوراء. هو ليس مهتماً فقط بمنع حلف الناتو من التمدّد شرقاً وإفشال محاولات الاتحاد الأوروبي لضمِّ كييف إليه، بل الأهم عنده فرض ترتيباتٍ جديدةٍ على الأميركيين و"الناتو" في شرق أوروبا ووسطها وفي دول البلطيق، التي كانت يوماً في قلب حلف وارسو السوفييتي، وتمثل اليوم الجبهة الشرقية لـ"الناتو" على الحدود الغربية لروسيا. بوتين، كما كثيرون من الروس، يشعرون بجرح الكرامة الذي ترتب عن انهيار الاتحاد السوفييتي، والواقع الجيوستراتيجي المجحف، كما يرون، الذي فرضته الولايات المتحدة عليهم مستغلة الفوضى التي سادت روسيا حينها وضعفها الاقتصادي. المسألة تتعلق بأمنهم القومي، وبأمجاد عظمة الإمبراطورية السوفييتية الغابرة خلال الحرب الباردة. أما اليوم، حسب مقاربة الكرملين، فإن روسيا تتمتع برئيسٍ طامح إلى الاعتراف به زعيماً لدولة عظمى يعامله الأميركيون بندّية. إنها تصفية حساب.

لدى الصين، كذلك، مراراتها مع الولايات المتحدة. يعود التوتر بين البلدين إلى عام 1949، عقب سيطرة الشيوعيين على الحكم بزعامة ماو تسي تونغ. وعلى الرغم من أن إدارة ريتشارد نيكسون اعترفت بجمهورية الصين الشعبية عام 1979، وأقرّت مبدأ "صين واحدة"، بمعنى أن تايوان جزء منها، إلا أنها حالت دون ضمّ هذه إليها، بذريعة أن ذلك لا ينبغي أن يحصل بالقوة والإرغام. ولا تُخفي الصين شعورها بالإهانة أيضاً من تعامل الولايات المتحدة معها، على مدى عقود، أنها ضعيفة اقتصادياً وعسكرياً، وهذا ما أجبرها في بعض الأحيان، في الماضي، على الاستجابة لضغوط أميركية، كالإفراج عن مدافعين عن حقوق الإنسان، أو قبول شروط واشنطن للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية. بقية قصة التوترات الراهنة معروفة، من المعارك الجمركية، إلى المنافسة الاقتصادية عالمياً، إلى نزاع النفوذ في بحر الصين الجنوبي، تحديداً، وفي شرق آسيا، عموماً. ولكن صين اليوم ليست صين أمس، وهي عملاقٌ في طريقه لإطاحة الولايات المتحدة، قريباً، عن عرش العالم اقتصادياً. وهي قوة عسكرية وسياسية وتكنولوجية عظمى صاعدة بسرعة، كذلك فإنها مصرّة على إبعاد القوة العسكرية الأميركية عن تخومها، وتوحيد تايوان معها، ولو بالقوة، وإعلان محيطها الجيوستراتيجي منطقة صينية خالصة.

تستنزف لعنة القوة الولايات المتحدة، وتشتّت تركيزها، وتجعلها مطالبة بأن تكون في ساحات كثيرة وعلى جبهات متعدّدة في آن واحد

ولأن الولايات المتحدة هي "قوة الأمر الواقع" اليوم، وإن كانت في طور تراجع، فإنها تسعى، بكل ما أوتيت من قوة، إلى الحد من طموح "القوى المتمرّدة"، وتحديداً الصين. "قوة الأمر الواقع" و"القوة المتمرّدة" مصطلحان متداولان في حقل دراسات العلاقات الدولية. لم تتردّد إدارة الرئيس، جو بايدن، في إعلان الصين "المنافس الجيوسياسي" الأساس. هذا تقدير أميركي يتداول رسمياً وعلناً منذ الإدارة الأولى للرئيس الأسبق، باراك أوباما. ومن ثمَّ كان أن حولت الولايات المتحدة ثلثَي قوتها البحرية نحو بحر الصين الجنوبي وشرق آسيا، في منطقة المحيط الهادئ، لاحتواء الصين. ثلثا التجارة العالمية يمران من هناك. ثمَّ جاء بايدن الذي سحب قوات بلاده من أفغانستان وخفّف وجودها العسكري في الشرق الأوسط، للتفرّغ للصين. لكن للعنة القوة العظمى رأي آخر واشتراطات أخرى.

لأن أميركا هي القوة العظمى، فإن حلفاءها في الشرق الأوسط يتوقعون منها حمايتهم والوقوف معهم ضد إيران التي تزداد قوة وشراسة. وما قصف الحوثيين في اليمن، حلفاء طهران، أخيراً الإمارات إلا دليل آخر على ذلك. أيضاً، لأن أميركا هي القوة العظمى، وتريد أن تحافظ على مصداقيتها التي اهتزّت كثيراً خلال سنوات ترامب، ثمَّ بعد الانسحاب الفوضوي لبايدن من أفغانستان، صيف العام الماضي، فإنها اضطرّت إلى أن تعود إلى أوروبا لحمايتها من روسيا الطامعة. ينطبق الأمر ذاته على كوريا الشمالية وصواريخها الباليستية وتجاربها النووية، وتهديدها حليفين أميركيين، كوريا الجنوبية واليابان، بل وتهديدها الآن البرّ الأميركي نفسه.

تحذيرات في الدوائر الأكاديمية والإعلامية والسياسية والعسكرية الأميركية من احتمالات وقوع حرب أهلية عام 2024

تستنزف لعنة القوة هذه الولايات المتحدة، وتشتّت تركيزها، وتجعلها مطالبة بأن تكون في ساحات كثيرة وعلى جبهات متعدّدة في آن واحد. يدرك خصومها ذلك، ومن ثمَّ فهم لا يتوقفون عن افتعال الصداع والأزمات لها هنا وهناك. وهم، على الرغم من خلافاتهم، لا يمانعون في مستويات معينة من التنسيق بينهم، كما تفعل الصين وروسيا وإيران. منتصف شهر يناير/ كانون الثاني الجاري، أجرت هذه الدول الثلاث مناورات بحرية، هي الثالثة بينها، في المحيط الهادئ. أيضاً، يدرك خصوم واشنطن، أو "القوى المتمرّدة"، أن "قوة الأمر الواقع" الأميركي تعيش استنزافاً داخلياً غير مسبوق في عصرها الحديث. هناك جائحة كورونا الذي ما زالت أميركا عاجزة عن احتوائها. هناك التضخم المنفلت من كل عيار. هناك الأزمة الاقتصادية. وهناك ارتفاع حدّة الاستقطاب المجتمعي والسياسي. وهناك عشرات الملايين من الأميركيين الذين لا يعترفون ببايدن رئيساً شرعياً. والأدهى أن هناك تحذيرات في الدوائر الأكاديمية والإعلامية والسياسية والعسكرية الأميركية من احتمالات وقوع حرب أهلية، عام 2024، وتفكّك الولايات المتحدة إذا ما حدث نزاع آخر على نتائج الانتخابات.

انهيار أميركا أو انتهاء نفوذها الدولي الكبير ليسا أمرين حتميين، ولا حتى مرجّحين حالياً. لكن، تراجع هيمنتها وسطوتها عالمياً أمر مؤكّد، فنوع التحدّيات التي تواجهها اليوم، ومستوى القوى التي تنافسها، قطعاً سيعيدان تشكيل النظام الدولي، وستكون الولايات ضحية التزاماتها الكثيرة. هذا هو الجانب المظلم للقوة العظمى، أو لعنتها.