الوطن لزقة

الوطن لزقة

22 مارس 2022
+ الخط -

اضطرّ صديق لي للعمل في البلدية عامل تنظيفات. لم يتكبّر على هذا العمل، رغم أنه خرّيج كلية الفنون الجميلة، والمفترض أن يحصل على عمل ضمن اختصاصه، أي مدرّس للرسم في مدرسة ثانوية أو إعدادية. ولكن عملية القبول في الوظائف في ذلك الوقت كانت تتم بناء على ورقة تسمّى "عدم ممانعة"، تمنحها للشخص أجهزة الأمن. وبسبب مواقفه السياسية، لم يتمكّن من الحصول عليها. وبالتالي، كان يُرفض تشغيله في اختصاصه، ما اضطرّه للرضوخ أخيرا لنصائح قريبه الذي يعمل في البلدية، وتقدّم بطلبٍ للعمل هناك في سلك التنظيفات، كما كان يسميه قريبه. وكانت الأجهزة الأمنية كريمة معه هذه المرّة، حيث منحته "عدم الممانعة" في زمن قياسي. وهكذا توكل صديقي على رب العالمين، وبدأ بالعمل، غير أنه، بسبب خوفه من نظرة الناس السلبية التي قد تتشكّل تجاهه بسبب عمله هذا، قرّر منصور التنكّر وإخفاء وجهه عن العامّة، فارتدى سلكا ولفّه على رأسه، ووضع فوق عينيه نظّارة سوداء، وانطلق ينظّف الشوارع التي كلف بتنظيفها بحماسة. كان يرافقها أحيانا بصفير للحنٍ ما، عندما يكون الشارع خاليا. ورغم ذلك كله، فوجئ في أول يوم عمل له بشخصٍ يلقي عليه التحية باسمه، فجفل، ولكنه حثّ الخطى مبتعدا بشكلٍ يدل على أنه ليس منصور الذي سمّاه الرجل. تكرّرت العملية في شارع آخر، حيث ألقى شخص عليه التحية باسمه، ولكنه كما تصرّف سابقا لم يردّ. وفي شارع آخر، وقف رجل على مقربة منه وناداه باسمه: منصور؟
لم يتفاعل منصور مع النداء، وتابع عمله كأنه لم يسمع، فكرّر الرجل النداء، وكرّر منصور تجاهله، ما اضطرّ الرجل العنيد أن يمسك بكتف منصور ويهزّه سائلا: منصور ولّا أنا غلطان؟
ما حدا بمنصور أن يخلع غطاء رأسه ويرميه أرضا بعصبية واضحة، صارخا بوجه الرجل: نعم، منصور، هل حنيت ...؟
لم يفهم الرجل الفضولي سبب عصبية منصور الذي دفعه الفضول إلى أن يسأل كيف تمكّنوا من التعرّف إليه رغم تنكّره فأخبره الرجل: إنه ذلك الوشم الذي على ساعدك.
نظر منصور إلى ساعده، وانتبه إلى القلب الذي كتب داخله اسم سعاد التي لم تعد حبيبته، لكنه بقي منقوشا على الساعد.
على الحدود البيلاروسية البولندية، كنت مع صديق سوري ضمن مجموعة متوجهة إلى هناك. وعلى نقطة الجوازات الحدودية، جرى السماح للجميع بالعبور، إلا نحن الاثنين، فقد طلب منا أن ننتظر جانبا رغم أن جوازي سفرنا ليسا سوريين، ثم جاء موظف آخر، وأخذ يوجه إلينا أسئلة تتعلق كلها بانتمائنا السوري، وبعد تحقيق مطول في هذا المجال تركونا ندخل.
في كل مرّة كنت أسافر إلى الولايات المتحدة أو العكس، كنت أجد في حقيبتي التي جرى فتحها ورقة كتب عليها "حفاظا على أمنك وسلامتك تم تفتيش عينة عشوائية كانت حقيبتك ضمنها". ويا سبحان الله حقيبة هذا السوري دائما تقع ضمن العينة العشوائية. وكما أراد منصور أن يعرف كيف يعرفونه رغم تنكّره، فكّرت أيضا: "كيف يعرفونني؟". وسرعان ما اكتشفت أن هناك في جواز سفري وشما من ثلاثة حروف (SAR)، الحروف الأولى من عبارة "الجمهورية العربية السورية Syrian Arab Republic"، يأتي بعد "مكان الولادة". وهكذا يتعرّفون علينا عند كل حدود، رغم جوازاتنا الأجنبية. ومن يومها، اكتشفت أن امتلاكك جنسية أخرى لا يجعل حرّاس الحدود يتوهون عنك سوريا، وأن الوطن "لزقة" لا فكاك منها. وفكّرت: لماذا لا أُدخِل حرس الحدود في متاهة، فأنا لست من مواليد الجمهورية العربية السورية. أنا كما ورد في شهادة ميلادي من مواليد الجمهورية العربية المتحدة، فلماذا لا أصحح مكان ولادتي، وأجعلهم يصدّعون رؤوسهم في البحث عن تلك الجمهورية؟

ممدوح حمادة
ممدوح حمادة
كاتب وسيناريست ورسام كاريكاتير سوري