Skip to main content
الورقة الأفغانية في الانتخابات الفرنسية
سلام الكواكبي

مهما كانت الرغبة في انتقاد السياسات التي ينتهجها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وحزبه الفتي، ملحّة، فالإجماع صار واضحاً على أن ولايته الأولى التي ستنتهي بعد أشهر قد حملت في جعبتها، إلى جانب السياسات والخطوات القابلة للنقد، حجماً متفاقماً من سوء الطالع، المستند إلى وقائع محسوسة، زادت من هشاشة الموقف، وعزّزت من إمكانات انتقاده. فبعد بداية متفائلة نسبياً بقدوم وجه جديد آتٍ من خارج الأطر التقليدية، وهو يحمل مشروعاتٍ عملية للتطبيق في كل المجالات، وذلك بالاعتماد على شريحة واسعة ممن انتموا سابقاً إلى اليمين ذاته واليسار ذاته، كما من ممثلي المجتمع المدني المتخلص من الأيديولوجيات، سرعان ما توضّحت الصورة المشوبة بعقباتٍ تتراكم تباعاً مع عجز عن إيجاد حلول لها.

أولى هذه العقبات، والتي حملت أبعاداً عابرة للمسارات اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وحتى أمنياً، كانت مع مجموعات احتجاجية باسم "السترات الصفراء". وقد عبّروا، في احتجاجاتٍ متعاقبةٍ، عن معارضتهم الشديدة السياسات الليبرالية المؤثرة سلباً، كما يستخلصون، على المآلات الاجتماعية والاقتصادية التي تعرفها أوسع شريحةٍ من الطبقات الفرنسية التي تمتد، بدءاً من الطبقة الوسطى ونزولاً إلى أصحاب الحدود الدنيا من الرواتب والأجور، ووصولاً إلى العاطلين عن العمل. ولقد واجهت المؤسسة السياسية والحكومية الفرنسية، بعد بدء هذه الأزمة، والتي ما زالت عواقبها تؤثّر في المشهد العام، أزمةً وبائيةً حادّة مع الانتشار العالمي لفيروس فتّاك، وما رافق ذلك من تخبّط حكومي في معالجته ومحاولة الإحاطة به والسيطرة عليه. لقد امتدت الفترة الوبائية حتى الساعة، بعد تكرار الظن بالتخلص منها، وحمل مسارها شواهد عدة على الخسائر الاقتصادية والبشرية الفادحة التي صاحبتها، معززةً بذلك حجم جيش العاطلين وقلق جيوش "السترات الصفراء" المستمرّة بالاحتجاج.

اعتبر ماكرون أن على دولته الحذر من تجدد موجات الهجرة التي عرفتها أوروبا سنة 2015

بموازاة هذا التراجع، برز جلياً صعودٌ للخطاب الشعبوي في أوساط اليمين المتطرّف، كما اليسار المتطرف. ترافق هذا كله مع خسائر مهمة لحزب الرئيس في الانتخابات البلدية، كما الإقليمية التي جرت خلال هذه الفترة الحرجة. وبدا واضحاً صعود اليمين المتطرّف الذي يعتمد على ملفاتٍ شائكةٍ عجزت الحكومات المتعاقبة على التعامل معها، بعيداً عن الحسابات الانتخابية. ويمكن إجمال هذه الملفات بمسألتي الهجرة والأمن. ولقد دفع هذا الثنائي الرئيس الفرنسي إلى تعزيز حضور الخطاب الرسمي حول المسألتين، بصيغٍ تحاول تجاوز الخطاب المتطرّف احياناً.

على الصعيد الخارجي، فشلت الإدارة الفرنسية في إيجاد حلول مقبولة للأزمة اللبنانية المتفشية، على الرغم من الاستعراضات المتعاقبة التي لم تفض إلا إلى الخيبة. كما عجزت فرنسا عن تحسين علاقاتها بدولة محورية متوسطية مزعجة لطموحاتها الإقليمية، وهي تركيا. وفي الأزمة الخليجية، تفاعلت الإدارة الفرنسية مع تشابكاتها بتراخٍ، وفضلت تعزيز تجارتها الحربية مع طرف، عوضا عن الخوض في وساطاتٍ كان يمكن لها أن تؤثر إيجاباً.

فتح ماكرون الباب جزئياً لتغيير في الموقف إن أظهرت حركة طالبان ميلاً إلى الاعتدال واحترام الحقوق الأساسية

الانتخابات الرئاسية بعد أشهر، وعلى الرغم من كل العقبات المذكورة أعلاه، ما زال الرئيس ماكرون يأمل بتجديد ولايته لخمس سنوات جديدة. وعادة ما تعتبر فترة الإجازات الصيفية فترة راحة سياسية، لا تتخللها أحداثٌ مهمة. وبشكل استثنائي، وعلى هامش قضاء عطلته الصيفية في الجنوب الفرنسي، اندلعت حرائق جارفة في محيط مكان العطلة الرئاسية، واضطر للقيام بجولات ميدانية بين ألسنة اللهب، ليظهر مسؤولاً ومبالياً بمأساة مئات من أترابه المواطنين. وفي الوقت ذاته، استولت حركة طالبان بسهولةٍ عبثية على أغلب المدن والمقاطعات والعاصمة الأفغانية، بعد قرار أميركا التوقف عن الاستثمار في هذا البلد الذي غزته قبل عشرين سنة، وأقامت فيه إدارة فاسدة ومتهالكة النموذج. وعملاً بمبدأ التبعية في السياسة الخارجية للإرادة الأميركية، والذي أعاد إحياءه الرئيس السابق، نيكولا ساركوزي (2007 ـ 2012)، بعد عقود من الاستقلال النسبي، أسّس لها الجنرال شارل ديغول (1959 ـ 1969)، فقد انخرطت فرنسا متردّدة في رمال أفغانستان المتحرّكة، وانسحبت منها باكراً نسبياً، حيث تركت التحالف الدولي سنة 2014. في المقابل، استمرّت في الاستثمار في بناء الدولة، وفي المساعدات الاقتصادية والتنموية التي كانت تذهب في جيوب الحكام الأفغان. كما كان لمواطنيها وجود متميز في إطار المنظمات الإنسانية غير الحكومية، كما في إطار مختلف منظمات الأمم المتحدة العاملة في أفغانستان.

تفاعل الرئيس الفرنسي مع الحدث الأفغاني بخطابٍ متلفز، وردت فيه كل العبارات اللازمة للتشديد على موقف بلاده من الحركات الدينية المتطرّفة، مع فتح الباب جزئياً لتغيير في الموقف إن أظهرت حركة طالبان ميلاً إلى الاعتدال واحترام الحقوق الأساسية، للإنسان عموماً وللمرأة خصوصاً. وفي هذا الإطار، تطرّق الرئيس إلى رغبة آلاف من الأفغانيين في اللجوء إلى الغرب متفهماً دوافعهم، ولكنه، في الوقت نفسه، اعتبر أن على دولته الحذر من تجدد موجات الهجرة التي عرفتها أوروبا سنة 2015. في اليوم التالي لهذا الخطاب، ثار اليمين كما اليسار على مضمونه، فاليمين اتهم الرئيس بفتح الحدود أمام موجات جديدة، في حين أن اليسار دان انعدام الموقف الإنساني من مأساة الأفغان. ملف ناري جديد يمكن أن تكون معالجته أحد مفاتيح النصر أو الهزيمة في الانتخابات المقبلة.