الورقة الأخيرة من تقويم مكرّر

الورقة الأخيرة من تقويم مكرّر

31 ديسمبر 2020
+ الخط -

لولا أن أعظم خسائري في العام الذي يغادر اليوم كان أخي الذي فقدته منتصف العام، لأشعر بعدها بأن لا شيء يستحق المضي في الحياة، لقلت إن هذا العام، على الرغم من ظروف جائحة كورونا، وربما بسببها كان أحد أعوامي الجميلة. لقد وجدتُ نفسي التي ضاعت طويلاً في لهاث الأيام المتشابهة والمكتنزة بمهمات عمل وكتابة وقراءة لا تنتهي أبداً. لكنها تحت ظلال الجائحة الكونية، عادت إليّ محملة بأسئلة جديدة وجميلة عن معنى السعادة التي يحاول المرء العثور عليها منذ أن يبلغ الوعي وحتى النهاية، فينجح ويفشل، ويراوح بين هذا وذلك، بلا وعي منه أحياناً، يعيش السعادة ولا يعرف أنه سعيد إلا بعد أن يغادرها، فيمضي مجدّداً لاستعادة ما مضى من دون جدوى. 

كان الوقت متسعاً أمامي للتأمل والتفكير، في الفراغ الكبير الذي أتاحته ظروف جائحة كورونا، بعد أن أوقفت الحياة في شرايين معظم الأعمال حول العالم، وأغلقت المطارات والموانئ والمنافذ والطرق إلا قليلاً، ووفّرت العذر الحقيقي القاهر والمقبول من الآخرين أمامي للتخلص من معظم الواجبات الاجتماعية التي تتطلّب تحركاً خارج المكان، واستغراقاً في الزمان. 

لم أكن ممن وجدوا في القراءة والكتابة ضالتهم في أثناء ذلك الفراغ الكبير، فقد كان معدل قراءاتي وكتاباتي في رقمه المعتاد إن لم يكن أقل. وبالتالي، تركت الحيز الأكبر من الوقت للانكفاء إلى الداخل والتفتيش في الزاوايا المنسيّة عن ذاتٍ عائدةٍ لتستريح بعد طول لهاث. كانت عودة مظفرة فعلاً، فبسكونها وحده كان الإنجاز الحقيقي لامرأةٍ كانت طوال عقود لا تكاد تنام، لفرط العمل والانغماس في ما وراءه. وها هو السكون الجميل في ما أنتجه من اكتشافاتٍ مذهلةٍ على صعيد العلاقات الشخصية وإعادة تكوينها وموضعتها في مراتب الحب والحاجة والاعتياد والاستغناء المؤقت أو التام. 

لقد اكتشفت، مثلاً، أن ترتيب أولوياتي لم يكن مثالياً، فكان لا بد من إعادة الترتيب وفق الظروف الجديدة اضطرارياً، ومع نهايات تلك الظروف التي تلوح بوادرها في الأفق، بل وحتى قبلها، أصبح الترتيب الجديد للأولويات هو المثالي، لا للمرحلة وحسب، بل ربما للحياة كلها، فلا شيء يمكن لي أن أعود إلى اللهاث وراءه، كما كنت أفعل. ولا علاقة إنسانية يمكنني أن أشعر بالانسحاق أمام الرضوخ لمتطلبات استمراريتها، أو اتخاذ ما يشل روحي من إجراءات، كي لا تموت. فلتمت كل علاقة مرهقة للروح، وليختف كل الذين لا يمكن أن يكونوا بهجة لها! 

عندما رحل أخي الذي كان بمثابة أبي، من دون أن يكون مريضاً ولا مسنّاً، بل ذهب إلى موته هادئاً رضياً بين أفراد أسرته جميعهم في لحظاتٍ تحيطها أحاديث الذكريات الجميلة والآمال الأجمل، كان الأمر، في البداية، أثقل من قدرتي على التفكير بأي شيء، إذ فقدت، لأيام، قدرتي على الرضا والتسليم النهائي بالقدر، كما هو مقرّر في أبجديات إيماني العتيق، وكان التساؤل الملحّ الذي أعادني إلى ما بدأ الفراغ يوفره لي من سكينة يقول؛ كيف يمكن الموت، إذاً، أن يكون هو المعادل الموضوعي للحظة أمل معلقة على سبيل الحياة؟ 

اليوم، الأخير من عام 2020. إذاً، لم يعد يعني بالنسبة إليّ سوى يوم آخر يمضي، لا يهم تاريخه المميز سوى بورقة التقويم السنوي التي ستكون الورقة الأخيرة في التقويم، لكن الحياة مستمرّة كما كانت أمس، وكما ستكون غداً بإذن الله، حيث سنفتتح تقويماً جديداً بانتظار غبي لورقته الأخيرة. لكن لا شيء يمكن أن يوقف النهر العظيم فيها من الجريان، حتى لو تغيّرت مصائر كل الناس حوله أو في خضمّه.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.