Skip to main content
الوافد والموروث وخرافات أخرى
محمد طلبة رضوان
(ضياء العزاوي)

"ما وجدنا عليه آباءنا .. " تكرّرت العبارة ومنطقها بصيغ مختلفة في القرآن الكريم، تشير إلى ما يتصوّره أصحابه حجةً في مواجهة الرسالة السماوية وصاحبها، فالنبي صلى الله عليه وسلم مرفوض، هو وما يدعو إليه، ليس لأنه كذاب، أو لأن ما يدعو إليه لا ينفع الناس، ولكن لأن دعوته تحمل قطيعةً مع الماضي، مع العادات والتقاليد والموروثات، فالموروثُ أصيل، والجديد متهم، حداثته تهمة، عصريته جريمة، لم يعرفه الآباء والأجداد، لم يقولوا به. هذا المنطق "الجاهلي" يُعاد تدويره، يوميا، في حواراتنا الدينية والسياسية، ويستدعيه أصحابُه لوصم أي فكرةٍ يعجزون عن مواجهتها أو تفكيكها، ويتحوّل الحوار إلى صراع ثم إلى عدم.
جاء المحتل إلى بلادنا أواخر القرن التاسع عشر يحمل أفكاره وأسلحته. وكان من المتوقع أن يرفض جيل من المثقفين العرب التعاطي مع أفكار لصّ وقاتل، يحتلّ الأرض، وينهب خيراتها. هذا مفهوم وبديهي، وقد يكون مطلوبا في سياقه. وعلى الرغم من ذلك، وجدنا تيارين، يعتقد أحدهما أن مقاومة المحتل تعني رفضه بخيره قبل شرّه، والآخر يفرّق بين الجندي والمفكّر، السياسي والفيلسوف. رحل المحتل عن بلادنا، وجاء جيلٌ جديد، وواقع جديد، وتحدّ جديد، لكن شيئا لم يتغير. استمرّت المعارك القديمة، وازدادت التوترات، والاستقطابات، والصراعات، وعبرت هذه الحساسية عن نفسها في كتابات أكثر تطرّفا في علاقتها بالأفكار الحديثة، انحيازا ورفضا.
ساهمت الأنظمة، بشكل كبير، في استمرار هذه المعارك، وتأجيجها وقت اللزوم، واستخدام كل فريق على الآخر، وإغراء كل فريق بالآخر، وصناعة أبطالٍ هنا، وشهداء هناك، وكان الهدف هو عدم السماح لأفكار مثل الديمقراطية، العلمانية، الحداثة، ... إلخ، بالمرور إلى واقعنا، لأن في وجودها الحقيقي، وتحوّلها إلى مشروع سياسي خطرا على وجود هذه الأنظمة، واستمرارها. وانتقلت "عدّة النصب" من استخدام المحتل، والإشارة إلى الدبابة في موضع الفكرة، إلى العودة إلى "ما وجدنا عليه آباءنا"، واستخدام الماضي، والأجداد، والنوستالجيا. وراجت مصطلحاتٌ برّاقة ولامعة، مثل الاستقلال الحضاري، والأصالة، وأخلاق القرية، والصحوة المباركة، والسلفية، وثنائيات مثل الوافد والموروث، والأصالة والمعاصرة، والعلم والإيمان. وجرى التوسع في تقدير مساحة الوافد المرفوض، وفق مصالح كل فريق، وهو ما حدث مع الموروث أيضا، الذي تعرّض بدوره لقراءات انتقائية، تحيي وتميت، وفق مصالح كل فريق، وصاحبت ذلك فوضى حقيقية في استخدام هذه المصطلحات، أنتجت أفكارا مشوّهة امتدت إلى الحياة اليومية، ونقلت الصراع إلى أبسط الأشياء وأهونها، صارت تحايا الصباح والمساء والشكر والترحيب بالضيف والحلف بالنبي محل صراع ديني وعقدي وهوياتي!
تصورت، ومعي كثيرون، أن جيلنا تجاوز هذه المعارك الوهمية، والأمور صارت أوضح مع الثورة الرقمية، والتوسّع في الترجمات، وقراءة الأفكار من مصادرها. وكانت ثورات الربيع العربي دليلا حيا، ثوارها، على اختلاف ولاءاتهم الأولى، قدرتهم على التجاوز، شعاراتهم المدنية الجامعة، نجاحاتهم الأولى الرائعة والمبشرة، سرعان ما انتهى ذلك كله، وجرى استدعاء "الكارت" الرابح، والمجرّب، والفعال، وتورّطنا، جميعا، ورغم أنوفنا، في صراعات الهوية، والتفاصيل شهيرة ومريرة. والسؤال: هل تفعلها الأنظمة وحدها؟ ولماذا تنجح اللعبة في كل مرّة، على الرغم من تكرارها، بالطريقة نفسها، والأساليب نفسها، والملل نفسه؟ ثمّة مثقف يقدّم خدماته، بوعي أو بدونه، بثمن أو لوجه الله، وينحصر دوره في إعادة تدوير نفايات الأفكار، ومغازلة تيمة "ما وجدنا عليه آباءنا" المتجذّرة في ثقافتنا ووجداناتنا، مثل الفتنة، تنتظر من يوقظها، لا لتلعنه، بل لتعلنه قائدا وعرابا ورمزا وقيمة. وعلى قدر قدرة صاحبنا على النصب والاحتيال، لمتابعيه ومريديه، وأحيانا لنفسه، يأتي النجاح والتأثير. ساهم التلفزيون في انتقال هذا النوع من التأثير من المثقف إلى الواعظ. وساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في انتقاله من الواعظ إلى المدوّن و"اليوتيوبر" و"الإنفلونسر". والأخطر ما نشهده الآن من تحوّل مثقفين حقيقيين إلى مسوخِ شعبوية لمجاراة أصحاب التأثير، بدلا من مقاومتهم، وحجز مساحاتٍ للتأثير إلى جوارهم، وتقديم مزيد من الخدمات المجانية للأنظمة الاستبدادية، تحت لافتات هوياتية وأحيانا ديمقراطية!