الهجرة غير النظامية في تونس

الهجرة غير النظامية في تونس

17 نوفمبر 2020
+ الخط -

شهدت تونس، أخيرا، تصاعدا لظاهرة الهجرة غير النظامية، فمنذ إعلان البلاد عن فتح حدودها، في نهاية شهر يونيو/ حزيران، الماضي، تفاقمت محاولات الهجرة من السواحل التونسية باتجاه الأراضي الإيطالية، وشملت، وبشكل غير مسبوق، هجرة عائلات بأكملها اتخذت من القوارب وسيلةً للرحيل، للوصول إلى الساحل الآخر للمتوسط. والأكيد أن الظاهرة تصاعدت بشكل لافت، منذ الثورة التونسية سنة 2011، ولكن المؤكد أنها ليست نتاجا للثورة أو وليدة التحولات السياسية التي عرفتها تونس، فقد بدأت بالتفشّي منذ أغلقت الدول الأوروبية حدودها أمام حالات اللجوء الاقتصادي، وكل الباحثين عن الشغل من مواطني دول المغرب العربي، بما فيها البلاد التونسية، فقبل 1986 لم تكن الظاهرة موجودة، بسبب إمكانية السفر إلى الدول الغربية من دون قيود (تحديدا فرنسا وإيطاليا، الوجهتين المحبّذتين لدى المهاجر التونسي). وكانت الدول الأوروبية حينها بحاجة ماسّة لليد العاملة التونسية الرخيصة. وستأخذ الهجرة غير النظامية منعرجا حادّا بعد 1995، وتوقيع دول الاتحاد الأوروبي اتفاقية شينغن، وما تبعها من إجراءات صارمة في التعامل مع المسألة التي أصبحت تندرج ضمن الملف الأمني في العلاقة بين الدول الأوروبية والجانب التونسي، حيث استغل النظام التونسي حينها الظاهرة لمكاسب سياسية ومالية، نال بمقتضاها شرعيةً كان يفتقدها بسبب دكتاتورية النظام. وعلى الرغم من لا ديمقراطية نظام بن علي حينها، إلا أن نجاعة جهازه الأمني في محاربة ظاهرة الهجرة غير النظامية (الحرقة كما يسميها أهل تونس) جعلته يحظى بإعجاب الجهات الأوروبية المختلفة، بل وثنائها، ووصل الحال بالرئيس الفرنسي حينها، جاك شيراك، إلى حد الحديث عمّا أسماها "المعجزة التونسية".
وقّعت تونس، في تلك الفترة، اتفاقيات متعدّدة مع دول الجوار الأوروبي، أربع منها مع إيطاليا بداية من سنة 1998، كما صادقت الدولة التونسية على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2000، بما فيه البروتوكول الإضافي حول مكافحة تهريب المهاجرين عن طريق البرّ والبحر والجو. وكان القانون التونسي الصادر في فبراير/ شباط 2004 قاسيا جدا في التعامل مع محاولات الهجرة غير النظامية. ولعب نظام بن علي دور الشرطي في حماية سواحل الدول الغربية من الهجرة القادمة من دول الجنوب، حيث كانت تونس ممرّا مفضلا للمهاجرين من دول إفريقيا جنوبي الصحراء، بسبب قربها من السواحل الإيطالية.

نجاعة الجهاز الأمني لبن علي في محاربة ظاهرة الهجرة غير النظامية جعلته يحظى بإعجاب الجهات الأوروبية المختلفة

ما إن سقط نظام بن علي في يناير/ كانون الثاني 2011، حتى حصل تدفق غير مسبوق للمهاجرين غير النظاميين على السواحل الإيطالية، انطلاقا من تونس، شمل مهاجرين من تونس ومن دول أفريقية شتى، بل وحتى من جنسياتٍ آسيوية من العاملين في ليبيا، وقرّروا الرحيل بعد تدهور الوضع الأمني إثر ثورة فبراير 2011 هناك. واضطرت السلطات الإيطالية إلى التحرّك باتجاه تونس، والتواصل مع رئيس الحكومة المؤقتة، الباجي قائد السبسي، الذي وقّع اتفاقية للتعاون في المجال الأمني في شهر أبريل/ نيسان 2011.
على الرغم من كل هذه الاتفاقيات، استمرت موجات الهجرة غير النظامية من السواحل التونسية باتجاه إيطاليا، بل أصبحت أسلوبا للاحتجاج على الأوضاع عند حصول الخلاف بين الحكم المركزي وبعض المدن الساحلية، ولم يعد مستغربا ظهور دعوات إلى الهجرة الجماعية عبر البحر، احتجاجا على قرارات حكومية غير منصفة. ولم يكن تشديد العقوبات والإجراءات الأمنية يوما حائلا أمام تصاعد هذه الهجرة باتجاه أوروبا، ولا تمثل بالتأكيد حلا ممكنا لظاهرةٍ تجد جذورها في حالة النمو اللاّمتكافئ بين ضفتي المتوسط والأسلوب غير الإنساني الذي تتعامل به الدول الأوروبية مع نظيراتها في شرق المتوسط، حيث تركّز دول الاتحاد الأوروبي أساسا على المسألة الأمنية، وعلى تسويق بضائعها في دول المغرب العربي، من دون اكتراثٍ بمسألة التنمية المشتركة العادلة، ولا التكامل الإقليمي، ولا دعم الديمقراطيات الناشئة، بل ظلت حريصةً على إيجاد شركاء من أنظمة الاستبداد، لتنفيذ سياساتها الأمنية الصارمة للتصدّي لما تعتبره خطرا تمثله أفواج المهاجرين. وعلى الرغم من أن الاتفاقيات الاقتصادية بين الجانب الأوروبي وتونس تعود إلى أكثر من نصف قرن، إلا أن أوروبا فشلت في دعم التنمية في تونس، وفي إيجاد حلول محلية لدعم التشغيل وإنتاج الثروة، بما يشجع المواطن التونسي على الاستقرار في بلده، وإنما ظلت تصر على تفعيل الإجراءات الأمنية بأقصى درجةٍ من التشدّد، وهذا محور الاتصالات الدائمة بين الأطراف الأوروبية ونظرائها في تونس. ولكن موجات الهجرة لن تتوقف، ولن يقل منسوبها إلا إذا غيّر الجانب الأوروبي توجهاته في السياسة والاقتصاد، وتوقف خطاب الهيمنة وحلّ التعاون بديلا له.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.