النسخة الترامبية وأجنحة 1968 التي تنبت

09 أكتوبر 2025   |  آخر تحديث: 09:54 (توقيت القدس)
+ الخط -

وإن شاخت الحكومات وطموحاتها، لا يشيخ أبداً قلب العالم ولن يتوقّف النبض. نبض السؤال، نبض التشوّق للحرية، ونبض الدهشة، والبراءة التي تخيف، ونبض انتظار العدل، حتى إن كان النور قليلاً أو يكاد... أكاد أقول إن البلدان تشيخ أيضاً كراماتها كما شاخت من قبل حضارات، وكما شاخ الإسكندر وضعفت روما. تعتمد الحكومات التي شاخت الآن على ظلّ بقائها وعوائد ديونها بحجّة المحافظة على مدّخراتها أو أمنها القومي، وإذا بأجنحة تنبت في أجساد شابّة هنا أو هناك، في "مكسيكو سيتي" أو في المغرب أو في نيبال، وفي غزّة أيضاً والله، رغم بشاعة هذا القتل العلني اليومي، ولا تكفّ تلك الحكومات إلا أن تكون ظلّاً لنسخة هناك تم تخليقها في البيت الأبيض في زمن هجين ومختلط وعنصري وعصبي وبغيض، نسخة فيها من كل تشوّهات العالم ولؤمه واستعباطه واستنزافه، نسخة مهجّنة من كل شيء، من عبادة المال أو التذلّل له، نسخة يشتهيها كل ديكتاتور فقير الخيال والمعرفة والجيب ويريد أن يحكم بأيّ وسيلة متمسّكاً بذلك الكرسي الهشّ، نسخة تغري بجمال الاستهبال والاستعباط حتى آخر نفس، نسخة الاستعراض أمام الكاميرا، حتى وإن كان ذلك في سباق خيل أو افتتاح متجر أو جني محصول الطماطم أو البطاطس.

نسخة تدّعي البساطة أمام فرن خبز أو مطعم بلدي، نسخة لزجة، ولكنّها متماسكة أمام المال، أو أمام القتل، أو أمام إهدار الكرامة. نسخة لا تهمها الصحافة ولا الحقيقة ولا المعلومات ولا الرأي العام وأنين الناس والشارع، لأنها هي الإعلام وهي الشارع وهي الجسر وهي الانتصار وهي الخزينة وهي الكاميرا، وهي الحقيقة الأولى والأخيرة. نسخة تقرأ رغباتها وتصوّراتها عن العالم. نسخة تخصّ نفسها، نسخة تحسب منافعها المؤقتة والآنية، وتدرك أن السلاح هو رأس مال الإنسانية، والمال هو الدماء في عروق الحكم، والمواطن فقط يدفع كي يتم التقدّم.

نسخة النجاح المضمون في الحكم في العالم المسلّح جيّداً، والقاهر لجيرانه جيّداً وللعالم الثالث والدول الفقيرة. نسخة المال واكتساح النجاح في البرلمان والحصول على قرض والحصول على "البكالوريا"، نسخة النجاح السريع في كرة القدم، حتى بالهرمونات أو الانتخابات المزوّرة. نسخة رجال البركة والسند والوطن والتقدّم للأعمال الرائعة، ولمحبّة الأوطان بشدّة بالقفز من أعالي الجبال أمام الكاميرا لزوم إتمام المشهد بسخاء، حتى إن كانت منحة تصوير المشهد من البنك الدولي، المهم أن يكون المشهد محاطاً بالورد. ومن غرابة تلك النسخة أنها تهزم في كل يوم مَن حولها، ولا تتألّم أبداً، ولا تفكّر أبداً، لأنها نسخة تنظر للعالم من ناطحات سحابها هي، ومن فوق أطول سارية علم أو أعلى فندق أو أطول نخلة أو أسرع قطار.

نسخة هناك مع محصولها الوفير من القروض والبطاطس، ولكل أزمة أغنية تزيحها أو مهرجان مناسب يجفّف دماء ما حدث. نسخة تنظر بسرعة للأمام فقط، وتجري للأمام فقط، وليس لديها أيَّ وقت لمناقشة المصائب، لأن العالم يجري بسرعة متناهية، ولا بدّ لهم من الجري أيضاً وراء العالم في كل مهرجان، وكل كأس عالم، وكل مهرجان سينما، وكل مهرجان للمانغو أو الطماطم أو القروض، نسخة تعرف أن في كل يوم أملا، وفي كل يوم شهداء هناك، وفي كل يوم سجينا يموت كي يحمي مظلّة حكمهم مزهرة. نسخة يتمنّاها المشتاقون جدّاً، لأن كل يوم ينسي اليوم الآخر، وكل مصيبة تنسي المصيبة الأخرى، وكل برج يجب تجاوزه ببرج آخر. نسخة تجدّد دماءها بدماء المساكين والمهاجرين والضعفاء في كل مكان، نسخة لا يهمها سوى الأقوياء، نسخة "إسكندر المال"، و"هرقل الإنجازات"، "ونتنياهو الدم".

نسخة لا تندهش، ولكنّها تتصنع الاندهاش. نسخة لا تندم، ولكنها تتصنّع الدموع والندم. نسخة لا تعرف، ولكنّها تدّعي المعرفة وتتباهى بها، رغم أن كل المعلومات لديها ملقنّة ومعروفة وساذجة ولا تحتاج أكثر ممّا يُسطَّر في دوائر المعارف القديمة والتقارير البسيطة. نسخة ناجحة جدّاً في الخطابات والدموع والدعاية ومراقبة أموال المواطن ودخله وتحرّكاته، حتى في سجنه. نسخة تقليدها أمام أفران القرى. نسخة تشتهي صورها على أبواب ملاعب كرة القدم والمقاهي وميادين العواصم وأسواق الخضروات والبهائم؛ حقاً والله!

نسخة لا تتوجّع أبداً ولا تشعر بألم، لأنها دائماً في كامل السعادة والطيبة والتعاطف مع الفقراء والمحرومين، وغالباً تتلاقى معهم في سباق الخيل ومزارع القمح وأسفل الجسور في الفجر، وتأكل معهم الفول والطعمية قبل افتتاح المشروع النووي العظيم.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري