هل يمثل الميثاق الأورومتوسطي نهاية تطلعات مسار برشلونة؟

12 فبراير 2025
+ الخط -

يمثل الميثاق الأورومتوسطي المشروع الجديد الذي يتبنّاه الاتحاد الأوروبي في علاقاته مع الدول العربية جنوب المتوسّط، والشرق الأوسط بشكل عام. ما زالت المكونات العملية لهذا المشروع الجديد قيد التشكل، لكن المعروف عنه يؤشّر إلى توجّه سياسي جديد ومعلن للاتحاد الأوروبي، تتأسس فيه علاقاته مع الدول العربية على أساس من الواقعية السياسية والمرونة التي تناسب مصالح وظروف كل دولة والمنافع المتبادلة، من دون تبنّي أهداف وتطلعات مثالية من الاتحاد الأوروبي، تشمل مساعدة شعوب المنطقة ومجتمعاتها المدنية على تحول دولها صوب الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وهو ما يبدو استعادة لمنظور "الاستثناء العربي" الذي طغى عقوداً على التفكير الغربي وروّجته أيضاً الحكومات السلطوية في المنطقة، والقائل بالتعارض البنيوي بين ثقافة شعوب المنطقة والديمقراطية. تتسق الأهداف الواقعية لهذا المشروع الجيد أيضاً مع ما قالته رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، أخيراً، أمام سفراء الاتحاد الأوروبي حول العالم أنه "يجب على أوروبا أن تتعامل مع العالم كما هو، وأن تتخذ قراراتها ليس بدافع العاطفة أو الحنين إلى عالم مضى، بل من خلال حساب مدروس لما هو في مصلحتنا في العالم كما هو قائم اليوم".

طبقاً لخطاب التكليف الصادر في نهاية العام الماضي من رئيسة المفوضية الأوروبية للمفوضة الجديدة للعلاقات المتوسطية الكرواتية دوبرافكا شويسكا يضع المشروع الجديد في أولوياته تعميق التعاون الأوروبي مع دول جنوب المتوسط في مجالات مكافحة الهجرة غير النظامية، تأمين الطاقة، وتعزيز التجارة والاستثمارات. يقوم المشروع على تأسيس مجموعة من المقاربات القُطرية التي تجمع الاتحاد الأوروبي مع دول جنوب المتوسط بشكل منفرد كما جرى أخيراً عبر تبني ما عرف بالشراكة الاستراتيجية مع تونس ومصر ومؤخراً مع الأردن. وبعد ما كانت سياسة الجوار الأوروبية تضع دول جنوب المتوسط مع دول الجوار الأوروبي في شرق أوروبا ودول منطقة جنوب القوقاز (أرمينيا وأذربيجان وجورجيا)، يفصل مشروع الميثاق الأورومتوسطي بين المنطقتين بحيث يتعامل الاتحاد الأوروبي بأولويات وطموحات مختلفة مع دول جنوب المتوسط تختلف عما يريد تحقيقه وضمانه في الدول الأكثر قرباً من الاتحاد الأوروبي، والتي تمثل أيضاً فضاء للتنافس الجيوسياسي والاقتصادي مع روسيا. كما أن سياسة توسع الاتحاد الأوروبي تشمل حالياً ترشح دول جديدة للانضمام، من بينها شمال مقدونيا، وصربيا، والجبل الأسود، ومولدوفا، والبوسنة والهرسك، وأوكرانيا، وألبانيا.

لم تعد أوروبا والولايات المتحدة والغرب بشكل عام قادرة على التحكم في مخرجات السياسة الدولية أو المؤسسات الدولية متعددة الأطراف

تعكس مراحل علاقات الاتحاد الأوروبي مع الدول العربية جنوب البحر المتوسط تحولات الواقع السياسي الإقليمي والدولي. يعكس توجهات الميثاق الأورومتوسطي سمات اللحظة السياسية العالمية الراهنة والتي تختلف جذرياً عن مناخ التفاؤل الذي غمر المنطقة في منتصف التسعينيات من القرن العشرين وقت صدور إعلان برشلونة للشراكة الأورومتوسطية عام 1995. كان هذا الإعلان محصّلة مرحلة ما بعد الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي، ومثل مسعى للاتحاد الأوروبي لتأسيس شراكة سياسية واقتصادية وثقافية طويلة الأجل مع دول جنوب المتوسط تضمن سيادة القيم المشتركة لاحترام حقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون، وتأسيس جسر للتواصل بين الشعوب في حوض البحر المتوسط، والتوصل إلى سلام شامل وتعايش بين العرب وإسرائيل. تواكب انطلاق مسار برشلونة مع بدء المفاوضات بين فلسطين ودولة الاحتلال الإسرائيلي منذ مؤتمر مدريد ثم اتفاق أوسلو (1991-1993). وقد توصل الاتحاد الأوروبي في إطار الشراكة الأورومتوسطية لعدة اتفاقيات شراكة ثنائية مع الدول العربية، فضلا عن أطر أخرى للعلاقات متعدّدة الأطراف بين دول الشمال والجنوب. وفي 2003، انطلقت سياسة الجوار الأوروبية كإطار مكمل لمسار الشراكة الأورومتوسطية، ويستهدف بالأساس دول جوار الاتحاد الأوروبي التي لم تشملها عملية توسيع الاتحاد شرقاً وجنوباً. شملت هذه السياسة وضع خطط عمل مشتركة تضم الاتحاد الأوروبي مع الدول الشريكة تضمن عملية انتقال سياسي واقتصادي في دول الجوار، ويتكفل بموجبها الاتحاد الأوروبي بتقديم مساعدات مالية مقابل إتمام الإصلاحات السياسية والاقتصادية والمؤسسية المطلوبة. وقد تعززت سياسة الجوار الأوروبية في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي استجابة لتحولات ديمقراطية بدأت في بعض دول الجنوب. أحدث فشل وانحسار ثورات الربيع العربي وتصاعد النزعات السلطوية في المنطقة جنوب المتوسط ردة كبيرة نتج عنها تعديل لمحتوى سياسة الجوار الأوروبية عام 2015 بحيث أصبحت أكثر واقعية في ما تسعى إليه، مقرّة بأن أولويات الاتحاد الأوروبي جنوب المتوسط تتمثل في تحقيق الاستقرار والأمن، من دون توقعات كبيرة بإمكانات حدوث تحولات نوعية في أنماط الحكم السائدة، وأنه على الاتحاد الأوروبي التسامح مع واقع التفاوت في نماذج الحكم والتنمية في المحيط الأورومتوسطي.

تعكس مراحل علاقات الاتحاد الأوروبي مع الدول العربية جنوب البحر المتوسط تحولات الواقع السياسي الإقليمي والدولي

في هذا السياق، بدأ يتشكّل خلال العقد الأخير مشروع الميثاق الأورمتوسطي، والذي يأتي استجابة لمجموعة من التغييرات البنيوية الدولية والأوروبية والإقليمية التي تدفع أوروبا لتبني منظور سياسي واقعي وعملي يحقق المنافع على المدى القصير. على المستوى الدولي لم تعد أوروبا والولايات المتحدة والغرب بشكل عام قادرة على التحكم في مخرجات السياسة الدولية أو المؤسسات الدولية متعددة الأطراف بالتزامن مع النفوذ السياسي الروسي والصيني ودول أخرى مؤثرة في الجنوب. كما أن المواقف تتباين داخل الكتلة الغربية من القضايا العالمية، مثل حرية التجارة والبيئة والتعامل مع حل الصراعات الدولية والمحلية، وحدود دور القانون الدولي في حل النزاعات الدولية، وأدوار المؤسّسات متعدّدة الأطراف. وسيتعمّق الانقسام داخل الغرب في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب بما يطرحه من تهديدات جسيمة لمشروع حرية التجارة العالمية، ومواجهة التحدّيات البيئية، ومواجهة أخطار النفوذ الروسي. وقد كانت للحرب الروسية الأوكرانية تداعياتها العميقة على أوروبا من حيث توسع سياسات الدفاع والتسليح والأمن، وتأمين مصادر الطاقة من دون الاعتماد على روسيا. من ناحية أخرى، تتباين مواقف الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تجاه قضايا خارجية كثيرة، وتجاه تجربة الاندماج الأوروبية ذاتها وآثارها الاقتصادية والاجتماعية على بعض الدول الأعضاء مع تصاعد المشكّكين من جدوى الاتحاد الأوروبي، خاصة مع خروج المملكة المتحدة من عضوية الاتحاد، والصعود المتسارع لأحزاب أقصى اليمين في البرلمانات الوطنية والبرلمان الأوروبي. من ناحية أخرى فشل مسار برشلونة في تحقيق السلام بين العرب وإسرائيل، أو اتخاذ مواقف سياسية وقانونية رادعة لاستمرار إسرائيل في انتهاكاتها وجرائمها الصارخة، وقد شكل العدوان الإسرائيلي أخيراً على غزّة ولبنان واقعاً سياسياً جديداً يهدد بزوال حل الدولتين من الأساس.

سيمثل مشروع الميثاق الأورومتوسطي أداة الاتحاد الأوروبي لإدارة المخاطر الحالية والمحتملة الآتية من الجنوب، وبشكل خاص في مجال الهجرة غير النظامية، وتعزيز علاقات أوروبا الثنائية مع دول الجنوب لتعزيز الاقتصاديات الأوروبية في مجال التجارة والاستثمارات، خاصة من دول مجلس التعاون الخليجي، وتأمين مصادر الطاقة. لكن هذا المشروع سيمثل نهاية رسمية للتصور الأوروبي الطموح لمستقبل المنطقة العربية جنوب المتوسط الذي بشر بها إعلان برشلونة قبل 30 عاماً.

معتز الفجيري
معتز الفجيري
معتز الفجيري
أكاديمي وحقوقي مصري. أستاذ مساعد ورئيس برنامج حقوق الإنسان في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل سابقاً في العديد من المنظمات غير الحكومية العربية والدولية المعنية بحقوق الإنسان.
معتز الفجيري