المونوبولي إذ تهزم الشطرنج
ترامب يؤدي اليمين الدستورية في مبنى الكابيتول في واشنطن (20/1/2025 Getty)
معظم المسؤولين السياسيين في العالم قلقون من زمن دونالد ترامب، في مقابل فئة قليلة من طغاة بينهم عرب وشعبويون معجبة بالرجل. حتى هؤلاء، كرئيس الأرجنتين خافيير ميلي أو رئيس حكومة المجر فيكتور أوربان، لا بد أن يحذّرهم مستشاروهم من أن ترامب في ولايته الثانية قد يكون أكثر غدراً وأكثر تقلباً مما عهدوه، يقفز من أقصى العداء نحو الصداقة المطلقة وبالعكس فور تغيّر المصلحة التجارية الاقتصادية المباشرة التي تسيّر وحدها عقيدته الخارجية "أميركا أولاً". ومع بعض استثناءات، أمكن القول إن أكثر المهدّدين من ترامب وإدارته هي الدول السلمية الديمقراطية الليبرالية. ولا لغز في هذه المعادلة، ذلك أن الأزمة الاقتصادية العالمية التي فاقمها فيروس كورونا ثم الحرب الروسية على أوكرانيا، تنحو بشعوبٍ، أحياناً كثيرة، حين يحين وقت الاختيار الحر، نحو ما هو ماضوي ورجعي، نحو اليمين المتطرّف والكلام الشعبوي والخيارات القومية، وقادة هذه التيارات السامّة يصدف أنهم يعتبرون أنفسهم إخوة ترامب في الرضاعة ومنهم من ينسب إلى نفسه فضلاً في وصول الرجل إلى السلطة، كحال ذلك الشعبوي البريطاني نايجل فراج، أب "بريكست".
على الجهة المقابلة، في البلدان غير الديمقراطية، يكفي لطاغية أن يُرضي ترامب وأن ينصاع إلى شروطه الاقتصادية، وأن يشتري أسلحة أميركية بالمليارات، من دون أن يخشى محاسبة في الصناديق التي تُستخدم لدفن المعارضين أكثر منها للاقتراع. انطلاقاً من ذلك، مذهلٌ أنّ احتمال استعداء الولايات المتحدة برئاسة ترامب بلداناً أنظمتها شمولية كروسيا والصين، متساوٍ مع احتمال أن تكون العلاقة ممتازة معها، لأن كل شيء تقرّره الصفقات والبزنس من دون اعتبار لأي تحالف أو تاريخ أو أيديولوجيا أو حساب للديمقراطية ولمصلحة كونية كهمّ بيئي مثلاً. لاحظ كيف أن فلاديمير بوتين لم يعد يجد حرجاً في الإعراب عن ارتياحه لكل ما ينطق به ترامب. أما القيادة الصينية، فتتذكّر جيداً الاتفاق التجاري "التاريخي" الذي أبرمه ترامب مع الرئيس شي جين بينغ عام 2020. فإن كانت السياسة الحديثة أقرب إلى طاولة شطرنج عملاقة تتصارع فيها تحالفات كبرى من الأصدقاء والأعداء لتحقيق تقدم جبيوبوليتيكي واستراتيجي في المناطق المتصارَع عليها، فإنّها في عالم ترامب لعبة مونوبولي كبيرة، حيث النزاع يحصل على المصالح الاقتصادية المباشرة، أسواقاً أو عقارات أو موارد طبيعية.
و"استعادة أميركا عظمتها" بمفهوم ترامب لا تحصل إلا عبر طحن الآخرين وسرقة مواردهم وابتزازهم الدائم مالياً وتجارياً. وترامب الذي يجمع في شخصه قيم القرون الوسطى مع تقنية السيارات الكهربائية والمركبات الفضائية، فإن أولويته الاقتصادية تضع في سلة واحدة النفط والغاز "القديمين"، ومصدر الثروة الحديثة الأهم في العالم هذه الأيام، الليثيوم، الضرورية لصناعات التكنولوجيا المتقدمة والأجهزة الذكية وبطاريات السيارات الكهربائية وتجهيزات المركبات الفضائية. ولمتابع أن يتصوّر كم أن دولاً مثل تشيلي والبيرو وجمهورية الكونغو الديمقراطية ستعاني من جشع ترامب لأربع سنوات على الأقل، وهي أغنى بلدان الكوكب بهذه المادة.
تألقّت ماضوية ترامب أول من أمس الاثنين في حفل تنصيبه. ساعات عصيبة كان على العاملين في الإعلام تحملها لأن المهنة تجبرهم على متابعة أكثر المخلوقات البشرية وضاعة. ترامب الماضوي الذي يعتبر أن العولمة والتبادل الحر أضعفا أميركا، يظنّ أيضاً أن الديمقراطية هي سبب تراجعها في العالم، هو الذي تمنى يوماً لو كان الأميركيون كالكوريين الشماليين يقدّسون زعيمهم. أمام ترامب أربع سنوات لكي يقضم ما أمكن من بنى تحتية لهذه الديمقراطية، ولكي يزيد فيها عدد المستعدّين لتحمّل مشقّة الوقوف في الشارع بدرجة برودة 13 تحت الصفر لمشاهدة موكبه يتنقل كالفاتحين بين الكابيتول هيل والبيت الأبيض، ذهاباً وإياباً.