الموريتاني في مطار كابول

الموريتاني في مطار كابول

31 اغسطس 2021
+ الخط -

تقدّم "هوليوود" المنحازة للكولونيالية الغربية، بين فترة وأخرى، أعمالاً مذهلة تباشر بعض هموم الشرق المسلم، مع بقاء بصمةٍ، في غالب هذه الأعمال، تُكرس رمزية العدالة الغربية العرجاء، كتوازن تسعى منه تلك الصناعة السينمائية إلى بقاء مسحتها في أي فيلمٍ مبدع، تراعي الجوهر الذي ترابط في "هوليوود" لتزوير الحقيقة ضد إنسان الجنوب. وهناك من يتمرّد على هذا الجوهر، سواء كقناعة إنسانية، استثمرت قوة الصناعة الضخمة للسينما الأميركية، فمرّرت فكرتها، بين أكوام من السلاسل الممنهجة التي تخدم توحّش الحداثة الغربية، وهي اليوم عاصفة هوجاء ضد الأسرة الطبيعية والطفولة.
ويبدو فيلم "الموريتاني" (The Mauritanian) من تلك الصور المميزة لعروض السينما، وهو فيلم بريطاني أميركي مشترك، زاوية تجسيد دور الإبداع المركزي فيه، تَقَاسمها رحيم الذي مثّل دور الشاب الموريتاني بطل القصة الحقيقية، ومؤلف الكتاب الذي حقق أكثر المبيعات في أميركا في موسمه، المهندس محمّدو ولد صلاحي، جسّد دوره الممثل الفرنسي من أصل جزائري، طاهر رحيم. أما البطولة الأخرى فكانت لدور نانسي هولاند، وهي محامية ولد صلاحي، ومثلت دورها جودي فوستر. وأعتقد أن بيندكت كامبرباتش الذي جسّد دور الضابط الأميركي، المكلف بإعاقة سير العدالة وبقاء ولد صلاحي في السجن أو ضمان إطلاقه بقيد معين كاعتقاله في أحد البلدان، أتقن كثيراً الدور، وأسبغ عليه حيوية تربط المشاهد بصورة الحقيقة، بغض النظر عن دقة التفاصيل المروية بين الفيلم ومعاناة ولد صلاحي مع "العدالة الأميركية" التي لا تُضعف قوة الفيلم الفكرية وتأثيره على المشاهد.

الصورة التي طغت على الحماس الإسلامي غطّت بها الولايات المتحدة تاريخاً أسود لا يزال قائماً من عهود إبادتها أخيرا

الحكاية طويلة لكن مركز قصتها أن محمدو الذي كانت له علاقات بالفعل مع بعض شباب تنظيم القاعدة تأثر بها من خلال الحملات العسكرية الأميركية والغربية على حاضر العالم الإسلامي، وانسحب منها، وعاد إلى صحراء شنقيط وتخوم منازلها العريقة بين الطبيعة والبيئة الإنسانية البسيطة، مارس عليه فريق السجن المكلف بالتحقيق أصناف تعذيب فوق التصوّر، وخصوصا في جانب التحطيم المعنوي المرتبط بأدوات الإنهاك النفسي المتعدّدة، وكان أشنعها تهديده المستمر بجلب أمه إلى معسكر غوانتانامو، حيث استغلّ فريق التحقيق الحماية القانونية من وزير الدفاع الأميركي، دونالد رامسفيلد.
أعلن ولد صلاحي روايته الحقيقية وجذور تعاطفه مع المسلمين المدنيين، وعدم تورّطه في جرائم ضد المدنيين الغرببين، غير أن فريق التحقيق كان يعمل على انتزاع اعترافٍ قهري منه، بجرائم أو مشاركات عسكرية لم يرتكبها. الفيلم تبدأ لحظته الشيّقة منذ الدقائق الأولى لفتح المحكمة الأميركية العليا باب المراجعة للأحكام العسكرية التي تُقيّد إطلاق ولد صلاحي وغيره.
تبنّت محاميته نانسي قرار الترافع عنه، في ظل زخم كبير يمارسه اليمين الأميركي ضد المتهمين، وهناك حالة تفاعل عاطفي لا تزال تجتاح أميركا، منذ لحظات العملية الإرهابية التي استهدفت مانهاتن، وراح ضحيتها آلاف المدنيين الأميركيين الأبرياء. هذه الصورة التي طغت على الحماس الإسلامي ذلك اليوم غطّت بها الولايات المتحدة تاريخاً أسود لا يزالُ قائماً من عهود إبادتها أخيرا، تواصلت من قبل حربي غزو أفغانستان والعراق، واستثمرت تلك الجريمة في مجالاتٍ سياسيةٍ وفكرية ضربت الشرق المسلم وأخّرته عقوداً، وأعطت أنظمة الاستبداد مشروعية ظالمة لجرائمها ضد شعوبها، وتصفية المعارضين باسم تهمة الإرهاب المكذوبة على الغالبية العظمى.

يُطوَّق الناس عبر وسائل الإعلام بمجرّد وقوع حدثٍ عنيف، وحتى قبل أن تتبيّن حقيقته

اعتُقل ولد صلاحي من منزله عبر السلطات الأمنية الموريتانية. وحسب سياق القصة، رَحَّلته حكومة وطنه إلى الأردن، حيث كان الأردن جهة التكليف الأميركي بالتحقيق الأولي، مع المتهمين أو مع عناصر "القاعدة". نقل المهندس محمدو ولد صلاحي إلى غوانتنامو، وظل فيها بعدما أُنهك بالتعذيب، وأَخذ منه فريق التحقيق ما يريد، حيث قفزت سلامة والدته قبل أي شيء في ضميره، ولو قتل في قبضة المارينز.
اللحظة الفاصلة هي اطلاع نانسي ومساعدتها على اعترافات ولد صلاحي. والصدمة الأولى التي غشيتهما من كونه أقر بأعمال إجرامية إرهابية، قبل أن تُكتشف الحقيقة في ما بعد، فلنلاحظ هنا الصدمة الكبيرة التي تمارسها الولايات المتحدة وبعض الحكومات الغربية المعادية بشدة لإنسانية المسلمين، في واقع الحياة الإعلامية والاجتماعية للمسلمين في الشرق أو في المهجر، إذ يُطوَّق الناس عبر وسائل الإعلام بمجرّد وقوع حدثٍ عنيف، وحتى قبل أن تتبيّن حقيقته، تُحاصرهم صدمةَ تخويف وتضليل تربط المجتمع المسلم بهذا العنف، ويوضع تحت تسليط ضخم للجريمة، تتخلله رسائل مكثفة من الإعلام أو بعض التصريحات الرسمية. وأخيرا، برزت ظاهرة التمحور العنصري داخل المؤسسات الأمنية في بعض الدول، وتقوم على فكرة عدم أهلية المسلم لتحرير الحقيقة، حتى ولو كان مواطناً ومسؤولاً أمنيا بسب دينه الإسلامي.

خرج ولد صلاحي حرّاً بعد 14 عاماً من المعاناة، وقد كان قد دوّن قصته التي أعلنته بطلاً بريئاً قبل أن يُنتج الفيلم

آخر فصول الفيلم وأهمها وصول نانسي هولاندر، محامية ولد صلاحي، والضابط ستيوارت كوتش، وهو المكلف بإعداد الملف الذي يعزّز تهم ولد صلاحي إلى الفكرة نفسها، بعد أن استجاب ولد صلاحي لمناشدة محاميته إعلان الحقيقة التي غُيّبت في محضر اعترافه، وقد كان يخشى من عودة ذلك الكابوس بالتعذيب والتهديد بوالدته. أما الكولونيل ستيوارت فقد وصل إلى المحاضر السرّية التي حمت فريقها المحقق الحكومة الأميركية، وفيها أن ولد صلاحي انتزعت منه الاعترافات تحت التعذيب المروّع لذلك الفريق.
خرج ولد صلاحي حراً بعد 14 عاماً من المعاناة، وقد كان قد دوّن قصته التي أعلنته بطلاً بريئاً قبل أن يُنتج الفيلم. أما الحقيقة الكبرى هنا، فهي حجم التضليل الذي يمارسه الأميركيون والحداثة الرأسمالية على العالم، باسم التمدّن والتحضّر، وتبرير حصار الشعوب المتخلفة أو إبادتها، تماماً كما هي الحقائق التي اختفت وراءها القضية لحظة سقوط الفَزِعين المروّع في مطار كابول، قبل أن يتبيّن للناس حقيقة المسؤول عن المطار، فأين هو قرار العدل الإنساني العام الذي ينصف تلك الأمم من معتقل الإعلام المزوّر.