الموت الصامت في غزّة
هل من الممكن أن تنقلب المشاعر وتختلط، أم أن العقول تصبح عاجزةً عن التفكير والتصرّف. ولذلك يأتي الإنسان بأفعالٍ لا يمكن أن يقوم بها في الظروف العادية، وهل من الممكن أن يصل الإنسان إلى درجةٍ ألّا يشعر بالألم، ليس لأنّ الألم لا وجود له، بل لأن هذا الألم فاق كل تصوّر وتخطى كل حدّ، فيحتمل أن يبتر أحد أطرافه من دون تخدير أو أن تجرى له جراحه دقيقة في وجهه من دون مسكّنات. والإجابة عن السؤالين تكون باختصار إن هذا يمكن أن يحدُث لو كنت تعيش في غزّة منذ قرابة عام ونصف، حيث بدأت أبشع مقتلة في التاريخ، والتي لم يستطع أحدٌ أن يكتشف موضع الزرّ الذي يمكن أن ينهيها، وكأن ذلك كله يحدُث من خلال آلة جرت برمجتها ثم قذفت في الصحراء لكي تعمل فيما نام من قام بذلك قرير العين في قارّة باردة بعيدة.
في غزّة ترى الموت الصامت كما أطلق عليه طبيبان أميركيان، وحيث كشفا عن فظائع تحدُث في مستشفيات القطاع المتهالكة صحياً، فقد خصّصت غرفاً لكي يموت فيها المصابون والمرضى بصمت، لأن لا وسيلة لإنقاذهم، وحيث أدلى الطبيبان بشهادتهما لصحيفة هآرتس الإسرائيلية، فيما رفضت نشر الصور التي التقطاهما نظراً إلى بشاعتها، ولكن ذلك لا يعني أن الشهادتين كانتا صادمتين تكشفان عن عمق المأساة الصحية، على الأقل التي يعيشها أهل القطاع، وحيث قذف بهم حرفياً في العراء.
في غزّة، ترى الموت الذي يستسلم له الناس الضعفاء، لأنهم يعرفون أن لا سبيل للنجاة، ولو بنسبةٍ لا تكاد تُذكر، فهناك شهادةٌ لأحد أفراد جهاز الدفاع المدني، حيث انتشل جسد امرأة من بين أنقاض مدرسةٍ قُصفت في جباليا، فأكد أنه كان يحملها وقد فارقت الحياة، ولكنه كان يرى بأم عينيه حركة جنينها المضطربة في رحمها، وكأنه يصارع الموت فعلاً. ورغم ذلك، اضطر أن يلقي بالجسد في حفرة أُعدّت قريباً من مكان انتشالها جرى تحويلها إلى مقبرة جماعية، لأنه كان يعرف أن لا سبيل لإنقاذ حياة الجنين، فلا مستشفيات قريبة مجهّزة، ولا حتى سيارة إسعاف تعمل غرفة ولادة مصغّرة، مثلما نرى في أفلام الإثارة والتشويق التي تصدّرها لنا "هوليوود"، ونحبس أنفاسنا أمام مشاهد إنقاذ حياة جنينٍ في لحظاته الأخيرة.
في غزّة أيضاً، ترى الأطفال يموتون في صمت، بل إنهم قد يموتون وشبح ابتسامة أخيرة على شفاههم الباهتة، مثلما حدث مع الطفل عثمان ابن السادسة، والذي كان يلعب مع الصغار أمام ما تبقّى من بيته الذي تعرّض للقصف مراراً، ولكن ذلك لم يمنع غارة صاروخية أخرى بالقرب منه جعلته يركض نحو أطلال البيت، خوفاً من أن يقضي على من تبقّوا من عائلته، فاستقبلته جدّته بين ذراعيها، ونظرت إلى وجهه، فوجدته يبتسم ابتسامة واهية، ثم نظر في عينيها وأسلم الروح لتكتشف الجدّة أنه قد أصيب من دون أن يشعر بشظيّة صغيرة من الصاروخ اخترقت ظهره، ونفذت عبر ضلوعه حتى استقرّت في قلبه.
لا تدري كيف يأتي الموت الصامت بكل هذه الغطرسة والإصرار في غزّة، ولكنك تستغرب من كل هذا العجز الذي حلّ بالناس هناك، حتى الأمّهات اللواتي أدلين باعترافاتهن الصادمة عن ترك جثث أطفالهن على قارعات الطرق، واضطرارهن للهرب مع من بقي حيّاً من الأطفال، حتى لو كان طفلاً واحداً. ولذلك سجّلت إحدى الأمّهات شهادتها لتبقى لطمة لا تُمحى على وجه هذا العالم الصامت، حين قالت: لم أستطع أن أنحني لكي أحمل جثة طفلي، لأن الدبابات كانت تطاردنا في رفح، وتطالبنا بالإخلاء، فتركت جثة ابني على الأرض، فيما أحكمت قبضتي الاثنتين على كفّيّ الصغيرين، وركضت سريعاً، ولم أشعر أنني تركت جثة ابني الثالث حقّاً، إلاّ حين جاء الليل وقسمت رغيف الخبز الأخير إلى ثلاث قطع بدلاً من قطعتين.