الموت الذي يسبق العيد
لو كان القاتل يعرف كم كان صعباً أن يصنع الآباء عيداً لأطفالهم في الخيمة، لتردَّد قليلاً قبل أن يرسل آلةَ موته صوب قماش الخيمة، وقبل أن يُلقي حمولتها بين طُرقات مخيّم النزوح، حيث كلّ ما تقع عيناك عليه يخبرك بأن هناك أحياءً يجاهدون، وأمواتاً يشبهون الأحياء، وأن العيد يدوس بقدميه المكان بخجل ووجل، لكنّ خجله ووجله لم يشفعا له أمام الموت الذي يأتي مع سبق الإصرار والترصّد، وكأنه قد خُلق خصّيصاً ليغتال ضحكات الصّغار، ويقتل الآباء والأمهات، ويكتب النهاية التي ألفها العالم "لقد مُسِحت هذه العائلة من سجل الأحياء".
لو كان القاتل الذي يُلقي الصاروخ من الطائرة بكبسة زرّ، والآخر الذي يُطلق القذيفة من الدّبابة بكبسة زرّ أيضاً، يعلمان أن الحياة قد جاهدت كثيراً لترسم خطوطاً واهيةً لها بين الخيام، وحيث علقت مثل بقايا طعام في أسنان طفل لم يتعلّم تنظيف أسنانه بعد. لو كان القاتل يعلم أو يتخيّل أن الحياة هناك تجود بأنفاسها، وأنها تحاول، وأن كلّ خيط يشبّثها بالأجساد يكاد ينقطع، لكان عليه التفكير ألف مرّة قبل أن يُرسل الموت بهذه الوحشية كلّها، فيمزّق الأجساد الصغيرة، ويبعثر الجدائل، ويُلقي ربطات الشعر الملوّنة فوق التراب المُخضَّب بالدم. أمّا أحذية الصغار الجديدة فقد أفلتت بعد أن التفّت حول الأقدام الصغيرة بعض الوقت، أفلتت حين أصبحت الأقدام بعيداً من الأبدان.
لم يفكّر القاتل للحظة كيف كانت الأم، التي تقبع منذ عام ونصف في الخيمة، تحاول أن ترتق خيوط الحياة المتهالكة، وكيف استطاعت أن تحيك الملابس لأطفالها لكي تبدو جديدةً، ولم تخبر أحداً أنها من ملابسٍ قديمةٍ انتُزعت من بين الركام، ولم تخبر ابنتها الصغيرة أن فستانها المزركش، المُوشّى بخيوط ذهبية، تشبه خيوط الشمس التي تطلّ كلّ صباح على خيمتها شاهداً بلا شهادة زور، فتُسجِّل لتاريخ الأرض استمرار أكبر مأساة وأفظع مقتلة. لم تخبر تلك الأم، التي تشقّقت يداها وعلا الحزن وجهها حتى فاق عمرها الحقيقي، أنها قد قصَّت بعض القماش من ثوب عرسها الذي انتزعته من بين أنقاض بيتها أيضاً، فاكتشفت أن جزءاً منه لا يزال بلا ثقوب، فيما احترق معظم القماش، وتساقطت الخرزات البرّاقة من أطرافه. ولذلك، فقد قرّرت أن تحيك من البقايا الناجية فستاناً لابنتها الصغيرة، ولم تكن تعرف أن محاولتها لصنع الفرح هي المحاولة الأخيرة، التي تلت محاولتها إشعال الحطَب وطهي آخر حفنة من العدس في قدر تلوّث بالسّناج الأسود، يقوم بمهمّته الوحيدة، وهي أن يقبع فوق النار طويلاً حتى ينضج ذلك النزر من الطعام، الذي لا يُسمن من جوع، لكنّه يُبقي الدم في العروق... إلى أن أتى الموت الأكبر، بموعد غير محدّد، قد يطول وقد يقصر، ولكن لا مفرّ من قدومه.
لو يعرف العيد أن الموت يسبقه في غزّة، لجثا على ركبتيه وبكى، ولخلع زينته معتذراً قبل أن يقف على أسوار المدائن المهدّمة، ولاعترف في نحيب أنه قد ساعد الأمّهات كثيراً، وحثّهن على النزول إلى الأسواق الفارغة، وهيَّأ لهنّ أن بإمكانهنّ أن يبتعنَ الجوارب الجديدة، والملابس المغلَّفة، والألعاب التي لم تتهشَّم حوافّها، بل إنه خُيَّل إليهنّ أنهنّ يملكن كثيراً من المال، وأن كلّ ما حلمن بشرائه لأطفالهن قد أصبح حقيقةً في تلك الأسواق، التي لا تحوي في الحقيقة إلا بضائع مُزجاة.
العيد في غزّة كان مصبوغاً بإتقان بلون الدم، وسبق الدمعُ والعويلُ والصراخُ صوتَ ضحكات الصغار، وطغت لوعة الفجيعة والفقد على التكبيرات، لأن القاتل لا يعرف سوى القتل، ولم يتخيّل لحظةً واحدةً كيف يُصنع الفرح من قلب الخوف، وكيف يرسم البؤساء يوماً جميلاً، والحرب تعصف بهم خلفيّةً سوداءَ ثابتةً، وكأنهم يسجّلون اعترافاً بأن العيد يوم... وأن الحرب روتين كلّ يوم.