الموتى يجمعوننا

03 فبراير 2025

(ماجد شلا)

+ الخط -

طقوس العزاء في عُمان تأتي في سياق تأدية الواجب، هي عادة اجتماعية قديمة (قدم الموت)، تهدف إلى تصبير أهل المصيبة ومواساتهم على مُصابهم، ومحاولة تخفيف الحزن عنهم من أهل أو أقارب أو جيران أو أصدقاء، من بعيد أو قريب، من المنطقة نفسها أو من منطقة أخرى، فتبلغ مدّة العزاء ثلاثة أيّام، يتداخل الرجال والنساء خلال تلك الأيّام، كلّ في حلقته وحيزه، فيقام العزاء الرجالي في مجالسَ ملحقةٍ بالمساجد، أو في خيام تستأجر، وتنصب في أقرب نقطة من بيت المُتوفَّى، ويكون عزاء الرجال بوقوف أهل المصيبة صفّاً واحداً، وبمرور المعزّين عليهم ومواساتهم واحتضانهم، ثمّ تقديم مائدة محمولة من التمر والقهوة والماء، ضيافةً لهم قبل خروجهم من العزاء مودّعين.
أمّا عزاء النساء، فيكون في بيت المُتوفَّى، حيث يأتين لمواساة أهل المصيبة، وبعضهن يحاولن تصبيرهم بالدعاء على فقيدهم بالرحمة والمغفرة، ولهم بالصبر والسلوان، ولكن بعض النساء يأتين، وينتحبن، ويعدّدن خصال المُتوفَّى بهدف مباكاة أصحاب العزاء وأهل المصيبة. وترتفع هنا أصوات عالية حزينة، قبل أن تجلس تلك المرأة "الباكية التي تهيّج البواكيا"، حسب الشاعر القديم، في الجهة المقابلة، بعد أن أنهت مهمّتها من المباكاة، وكأنّها حقّقت ما كانت تصبو إليه من إظهار الحزن وإفشائه، فتجلس بملامحَ باردةٍ وكأن شيئاً لم يكن. ومن العادات أيضاً أن يرتدي الرجال الزيَّ التقليدي المتجسّد في الدشداشة والمصر والخنجر والعصا. وفي مجالس العزاء المفروشة، تضطر إلى أن تخلع نعليك عند الباب، وقت الدخول والخروج، ويمكنك ألا تجدهما، أو تراهما وقد بدّلا نعالاً أخرى شبيهةً بها في اللون والشكل. لذلك، تفضل أن تعود إلى بيتك من دون نعليك، كما يمكن أن تجد سيارتك مخدوشة أو مبعوجة بسبب "قبلات قاسية" من سيارات أخرى، وهذا يوعز إلى كثرة المعزّين وزحمتهم، وضيق مساحات وقوف السيارات، خصوصاً في اليوم الأول صباحاً ومساءً، إذ إن كثيراً من المعزّين يأتون في هذا اليوم تحديداً، دلالةً (أو استعراضاً) على قربهم من الميت. وفي الحقيقة "الموت لا يوجع الموتى/ يوجع الأحياء بعدهم"، كما قال محمود درويش.
شهدتُ، في الأيام القريبة الماضية، عزاءَين، واحداً يخصّ خالتي التي رحلت إلى رحمة الله، وكان العزاء في صالة ملحقة بمسجد السلام، بولاية بركاء. كلُّ داخل يحمل معه عصاً، وقد ارتدى دشداشة ومصراً، وبعضهم يتخصّر خنجراً فضّياً. فبعد أن يخلعوا نعالهم في الخارج، يدخلون، ويبدأون في مصافحة الجميع، ابتداءً من الجهة اليمنى، وانتهاءً بالجهة اليسرى. والجميع يجب أن يقف في أثناء المصافحة، ثمّ يجلسون لحظة ولا يلبثون أن يقوموا. وإذا كثر المعزّون، فإنّ الوقوف يطول، وهناك من يجد سانحةً ويجلس قليلاً، قبل أن يقف مسلّماً على قادم جديد. وغالباً ما تطلق عبارة "أحسن الله عزاءكم" لأهل المُتوفَّى، ليردّوا بالعبارة الثابتة: "لله البقاء والدوام"، ولأني من أقارب المتوفّاة، فقد كانت فرصةً سانحةً لكي أرى أقاربي، الذين لم ألتقِ بعضهم منذ عقود، بل إنه من الطريف أني لا أتذكّر بعضهم إلا رضيعاً، فأراه الآن وقد كبر وتزوّج، ويعرّفني إلى ابنه الصغير. والصغار أيضاً يمكن أن يشاركوا في حلقة العزاء، وعادة ما يجلسون في طرف المجلس مجتمعين يتهامسون ويتضاحكون.
مجلس العزاء الثاني الذي حضرته في الأيام القلية الماضية، عزاء الصديق سليمان المعمري في وفاة والده. وكان هذا العزاء في بطن خيمة ورمل. فلا داعي حينها لخلع النعال. كذلك تميّز هذا العزاء بالعفوية، حتى إن سليمان رغم المصاب، لم يفقد روحه المرحة، وفي هذا الموقف رغم قصره قياساً إلى الموقف السابق، الذي استمررت أحضره ثلاثة أيّام بحكم أن المتوفاة خالتي، وجدت أيضاً أشخاصاً لم أرهم منذ وقت طويل، وكان العزاء فرصةً لتجديد هذه العلاقة والكلام السريع، بعضهم حين عرف أني ورفيقي، يحيى المنذري، قادمان من مكان بعيد، أصرّ على دعوتنا إلى الغداء في بيته، ولكن بسبب خطّ الرجعة الطويل اعتذرنا عن عدم تلبية مثل هذه الدعوات المرتجلة، وانطلقنا عائدين، وقد امتلأت رؤوسنا بوجوه عشرات من البشر الذين لا يمكننا أن نراهم مجتمعين لولا أن ميّتاً استجاب لقدره، وغادرنا نهائياً إلى عفو الله.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي