المنصرف جون كيربي بوجهه الشمعي
بانصراف الرئيس الأميركي جو بايدن، الأكثر صهيونية من نتنياهو نفسه، تُطوى صفحة رجل آخر لن يُتحفنا بوجهه الشمعي، وانحيازه الفجّ للعدوان الإسرائيلي الوحشي، غير المسبوق في تاريخ الصراع. ... جون كيربي، حامل المفاتيح ورجل المناصب الكثيرة التي تنقّل بينها، العسكري الذي لم يتمتّع يوماً بمناقبيّة العسكر، بل بمزايا الثعالب في الغابات، المحرّض لاقتراف المذبحة والإبادة، المنكر أي احتمالٍ بتورّط إسرائيل في الدم الفلسطيني، بما يزيد عن حاجتها للدفاع عن النفس، وفق مسؤولين غربيين ميّزوا على الأقل بين ما سمّوه حقّ إسرائيل بالدفاع عن نفسها وتوحشها، أي تجاوزها كل حدودٍ مفترضة لهذا "الحق".
يستطيع كيربي أن يقضي ما تبقى من حياته في ضيافة تل أبيب، متمتّعاً بالشمس الساطعة لمدن سواحل الأبيض المتوسط، وأن يقيم في شقّة فارهة هناك في الطوابق العليا، ليطلّ على الجوار الفلسطيني الذي خرج من كارثةٍ لا تقل تدميراً عن حرب نووية، وأن يتفرّغ لكتابة مذكراته ونضالاته في الدفاع عن خراف بني إسرائيل الضالّة التي أبادت أكثر من 46 ألف فلسطيني في قطاع غزّة، وتركت نحو 150 ألفاً آخرين مصابين ومعوّقين، ونحو مليوني غزّي، وهم بشرٌ في المناسبة، وخلقهم الله نفسه الذي خلق كيربي ونتنياهو ويوآف غالانت، في أسوأ وضع إنساني يمكن تخيّله في التاريخ، وهو أسوأ من أوضاع الشعب الألماني بعد الحرب العالمية الثانية، ولا يُقارن إلا بأوضاع اليابان بعد إلقاء أول قنبلة ذرّية عليها.
تنقّل كيربي بين المناصب، من ضابط رفيع الرتبة في البحرية الأميركية والجيش إلى الخارجية، مساعداً لوزيرها، فمتحدّثاً باسمها، ومساعداً لوزير الدفاع للشؤون العامة وناطقاً باسم "البنتاغون"، قبل أن يصبح مساعداً للرئيس الأميركي المنصرف ومنسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي للاتصالات الاستراتيجية في البيت الأبيض، وهو منصبٌ غريبٌ، يبدو أنه استُحدث للرجل الذي كان يحظى برعايةٍ غامضة، وتُفتح له الأبواب ليبقى على رأس الدعاية الأميركية وإدارة العلاقات وتسويق السياسات، كأن أرحام الأميركيات عقمت فلم تُنجب سواه.
وفي معرض تسويقه والثناء عليه عندما أُسند إليه منصبه الأخير، قالت إحدى مستشارات بايدن (أنيتا دان)، إن بايدن فخور بإسناد المنصب إليه، فخبرة "الأدميرال كيربي رفيعة المستوى التي تمتد عقوداً في مجال الأمن القومي ورؤاه الاستراتيجية الواضحة تجعل منه محاوراً ومستشاراً ذا قيمة كبيرة في فريق الإدارة".
لا تُعرف عن كيربي دراساتٌ متعمّقة، أو أي استراتيجية تحمل اسمه أو إنجاز يمكن تمييزه والإشادة به، باستثناء أنه بيروقراطي، ويتمتّع بخبرات لوجستية، محض إدارية وخدمية، ولولا مواقفه المناصرة بتطرّف لعدوان نتنياهو على غزّة لما سمع به أحد، في بلاد تعجّ بالخبراء ومراكز الأبحاث العابرة للدول والحدود والجامعات العملاقة.
ما عُرف عن كيربي هو بكاؤه على الهواء مباشرة في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، بينما كانت شاشة سي أن أن التي استضافته بعد ثلاثة أيام من الهجوم تبثّ صوراً للانفجارات المروّعة في قطاع غزّة التي كانت تقصفها الطائرات الإسرائيلية على الهواء مباشرة، بما لا يميّز بين مدني أو عسكري في أكثر مناطق العالم كثافة سكانية.
لو كانت صفات كيربي المفترضة التي أهّلته لمناصبه، تنطبق عليه حقاً، لكان بمقدوره الفصل بين الشخصي والعام، بين التعاطف الفردي مع طرفٍ دون غيره في أي صراع ومقتضيات المنصب التي يفترض أن تتوخّى البحث عن حلول لا التورّط العاطفي مع طرف بما يفاقم الأزمات، لكن كيربي لم يكن يُعنى بذلك، ولك أن تراجع تصريحاته منذ السابع من أكتوبر حتى انصرافه ورئيسه لتتبيّن أن الرجل تجاوز كل حدودٍ مفترضة للتعاطف الفردي، وانحاز بتطرّف لصالح طرفٍ على حساب آخر، بل إنه لم يستطع إخفاء كراهيته ونفوره من الطرف الآخر، فإذا هو عدو شخصي ينبغي إبادته.
كان كيربي "واثقاً" من استخدام حركة حماس المستشفيات مراكز قيادة ومخازن سلاح ومخابئ آمنة للمحتجزين، ما شكّل غطاء لقصف مستشفيات غزّة بمن فيها من مدنيين وكوادر طبية، وها قد انتهى العدوان ولم تثبت صحة ما كان يذهب إليه ويؤكّده.
هذا رجل مكانه خلف القضبان لمشاركته في حرب الإبادة على قطاع غزّة.