الممانَعة ليست مقاومة

الممانَعة ليست مقاومة

24 يونيو 2021
+ الخط -

في أنحاء الدنيا كلها، نشأت المقاومات ضد احتلالٍ ما. الفرنسيون ضد الاحتلال الألماني، الأيرلنديون ضد العسكر البريطاني. الجزائريون ضد الاحتلال الفرنسي. الصينيون ضد المغول. الفيتناميون ضد الأميركيين. المغاربة ضد الفرنسيين. والعراقيون ضد الأميركيين. وكلهم حملوا السلاح، وقاتلوا به المحتل، وانتصروا وانتقلوا إلى مرحلة ما بعد التحرير، وعزموا على بناء دول، كانوا هم على رأسها.

ولكن على لائحة المقاومين، ثمّة مقاوماتٌ منفردة، وقريبة لزمننا. الأولى هي المقاومة الجنوب - أفريقية، التي قادها نلسون مانديلا ضد نظام الفصل العنصري. وتجربتها المبكِرة مع السلاح المقاوِم، ونبذها له في مسار تطوّرها. وانطلاقتها بالنضال السياسي، وانتصارها بهذه الوسيلة وحسب. والثانية هي المقاومة الإيرانية، أي "المجلس الوطني للمقاومة"، المؤلف من خمسمئة شخصية وخمسة أحزاب محظورة في إيران، أشهرها منظمة مجاهدي خلق. وكان آخر بيانات هذا المجلس بمناسبة "انتخاب" إبراهيم رئيسي رئيساً للجمهورية، واصفة إياه بـ"المجرم بالجُمْلة". وهذه حركاتٌ تصف نفسها، ويصفها المراقبون، بـ"المقاومة". وهي لا تحمل السلاح.

انتقلت المقاومة الفلسطينية من قادةٍ إلى آخرين، من دون طرد قادتها السابقين، أو تجاهلهم

الثالثة من بين هذه المقاومات هي المقاومة الفلسطينية. حملت السلاح منذ نفضَ الفلسطينيون عن عيشهم غبار اللجوء والتشرّد، وبعد أن فقدوا الأمل بالجيوش العربية. الفدائي الفلسطيني أول تجسيد لهذه الوثْبة. انتقلت هذه المقاومة من قادةٍ إلى آخرين، من دون طرد قادتها السابقين، أو تجاهلهم: الحاج أمين الحسيني، عزّ الدين القسام، ياسر عرفات. من هذه البداية، والسلاح زينة هذه المقاومة، وهو يُلاقي ترحيباً حتى في الأوساط البعيدة عنه سياسياً، حتى أحياناً من أوساط معادية للممانعة (من هنا تفهم تعجّب، وأحياناً استنكار، جماعة الممانعة التأييد الذي لاقته هذه المقاومة من جهاتٍ أو أفراد غير ممانِعين).

وتحمل هذه الاستثناءات مفارقاتها بنفسها: الجنوب - أفريقية منها تدْحض تجربة المقاومة المسلحة. حمَلتها قيادة مقاومتها في أولى خطواتها. وهجرَتها بعد حين. هي مقاومةٌ غير ممانِعة، كتبت لنفسها الانتصار بأن نجحت في إلغاء نظام الفصل العنصري سلمياً. المقاومة الإيرانية كانت بدايتها شعبية، أي مسلّحة. وأفضى مسارُها إلى مقاومةٍ سياسية. وحالتها تخلق بلْبلة في أوساط ملتصقة بمحور الممانعة. إذ كيف يصحّ أن تخرج مقاومة على قادة الممانعة؟ فيما هؤلاء يفرضون تلازماً صارماً، يكاد يكون اندماجياً، بين الأولى والثانية، أي المقاومة والممانعة؟ كيف يمكن أن يكون المرءُ مقاوِماً نظام الممانعة، فيما هذا الأخير حوّل "المقاومة" إلى مرادفٍ للممانَعة؟

هذه ليست مقاومة، ولا حتى ممانَعة. إنها منازَعة. سلاحها بخدمة نزاع إقليمي، له وجه محلي

أما الأخيرة، المقاومة الفلسطينية، فهي فريدة. انتقلت مقاومتها المسلحة من فريقٍ إلى آخر. ولا يبدو من شعبية الفريق المسلح، حركة حماس، وسط الفلسطينيين، أنها ستنتهي كما انتهت غيرها من المقاومات. على الأقل، ليس في القريب المنظور. مكتوبٌ لسلاح هذه المقاومة أن يبقى حياً. وإذا سقطت في التقاعس، أو التراجع، عن كونها مسلحةً، فإن ديناميكية الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني تمنعها، وتُملي على أجيالٍ لاحقة أن تحمل بدورها السلاح.

محور الممانعة يعطي السلاح لهذا الفريق الأقوى الآن، أي "حماس". ولكن لن يكون مآل هذه الأخيرة مثل المآلات الممانِعة الأخرى، مهما علا شأن الدعم الإيراني لها.. لن تبلغ المواصيل التي بلغها الفرع اللبناني من الممانَعة. لن ترهن كل طاقتها وخيالها ومهاراتها لصالح دولةٍ بعينها، تلك التي تموِّل وتدعم بالسلاح. لا يستطيع يحيى السنوار ولا إسماعيل هنية، ولا غيرهما من صنف أولئك القادة، أن يتلفّظوا بمآثر الممانِع الأشهر حسن نصر الله: أن القرار لإيران، وكذلك التمويل والعقيدة.. إلخ. للحاجز المذهبي دور. ولكن الدور الأقوى يعود إلى طبيعة الصراع الذي يخوضه الفلسطينيون ضد إسرائيل. وهو صراعٌ حقيقي، يضع السلاح في مكانةٍ خاصة، لا تمتّ بصلةٍ إلى الفرع اللبناني من "محور الممانعة". وقد تحوّلت القضية الفلسطينية عنده إلى ذريعة، ليس إلا.

كان يمكن أن يُسمى حزب الله حزباً مقاوِماً في أولى مراحل انطلاقته. أي غداة الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وخروج المقاومة الفلسطينية منه. وفي هذه المقاومة، أزاح الحزب مقاومي العهد القديم، واحتكر مقارعة إسرائيل في جنوب لبنان، حتى انسحبت منه. هذا حصل عام 2000، أي منذ 21 عاماً. من بعدها، صار التمسّك بالسلاح الممانع يحتاج ما يبرّره، فكانت منازعة، اختار محور الممانعة بدلاً منها "المقاومة"، الأرفع حجّة، والأقدر على التغطية، وعلى إقناع شعوبٍ محبة للأبطال والأدوار.

حزب ليس ضد إسرائيل إلا للتشاوف، والغطْرسة والاستقواء والبروباغاندا، وضمن "قواعد الاشتباك"

أما بعد التحرير، فإليكَ لائحة موجزة، لأشهر مفاخر الممانَعة فرع لبنان: إشعال حرب 2006. التي لم يكن ما يبرّرها سوى قرية محتلة، مزارع شبعا، يسود لغط حول لبنانيتها أو سوريتها، ساهم محور الممانعة بإبقائه حيّاً. وانتهت هذه الحرب بـ"الانتصارات" التي نعهدها. وببروز حزب الله بصفته "مقاوماً"، يملك فوق قرار الحرب السلم كل القرارات الأخرى. ومن المفاخر أيضاً، اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري (2005)، وتجاهل التهمة الدولية الموجهة ضده. ومنها أيضاً وأيضاً اجتياح بيروت في 7 أغسطس/ آب 2008، بالسلاح المليشياوي إياه، مع قتل ودمار، فأخضعَ الحزب القائد، منذ تلك الواقعة، كل أطراف المافيا الحاكمة، وجعلها شريكاً ضعيفاً صاغراً في الحكم. بعد سنواتٍ قليلة، كانت مأثرة التدخل المسلح في سورية ومشاركة بشار الأسد بقسط وافر من جرائمه ضد أرضه وشعبه. وأخيراً، ضرب متظاهري ثورة 17 تشرين الأول بالعضلات والعصيّ والحجارة، بإشعال النار في الخيم والمنصّات والمجسّمات، بالاغتيال أحياناً، بـ"القرار السياسي"، بوصف المتظاهرين خونة مأجورين.. إلخ (هو نفسه ردّ بشار الأسد "المقاوِم" على ثورة شعبه). كل هذه المفاخر كانت مكلَّلة بـ"المقاومة".

والآن، الحزب نفسه، يقولها من دون موارَبة. النكبة اللبنانية الكبرى التي تسبّب بها هو وشركاؤه الصغار في الحكم: إنه لا يستطيع إزاءها شيئاً قبل الاتفاق الأميركي ــ الإيراني. أي أن التي كانت حركة مقاومة في بدايتها، وصارت الآن مكبّلة باتفاق أميركي إيراني، لا يعينها إلا بقدر ما يحمي سلاحها. ضد من؟ ليس ضد إسرائيل إلا للتشاوف، والغطْرسة والاستقواء والبروباغاندا، وضمن "قواعد الاشتباك". إنما ضد كل لبناني، مهما كبر رأسه، تسوّل له نفسه أن يقف ضد "سيد المقاومة"، حسن نصر الله.

هذه ليست مقاومة، ولا حتى ممانَعة. إنها منازَعة. سلاحها بخدمة نزاع إقليمي، له وجه محلي. وحركتها خصومة وشقاق وتباعد وكراهية. وصراعٌ مميتٌ لا ينتهي، حتى لو انتهت إسرائيل.