الملك "أوبو" ترامب
كنّا نقرأ عنهم غير مصدّقين، أولئك المجانين الذي حكموا العالم وكانوا قادرين، بفعل هوس أو رغبةٍ ما، أن يحرقوا مدناً ويودوا بشعوبها أو بشعوب مستعمرات ممالكهم، إلى الجحيم. هكذا، بجرّة قلم، بأمر شفهي، أو بتفسيرٍ يُعطى لكابوس أقلق مناماتهم بهدف تحذيرهم من خطر داهم، كانوا كفيلين بأن يأمروا بإنزال عقوباتٍ جماعيةٍ غير مبرّرة، حتى بأقرب الناس... كاليغولا، نيرون، هيرودوس الكبير، إيفان الرهيب، إلخ... الأسماء عديدة بالفعل، نقرأ عن أفعالهم ونكاد ننسبها إلى التأليف، إلا عندما نتذكّر أنهم حينما كانوا يُصابون بنوبات جنونهم، كان من المستحيل عزلهم، أو عصيان أوامرهم، هم أباطرة زمانهم الأقرب إلى آلهةٍ منهم إلى حكّام...
لكننا اليوم، ومع انتخاب الرئيس الأميركي ترامب لولاية ثانية، على الرغم مما أظهره في ولايته الأولى من خلل وانحراف في سلوكه وتصريحاته ومواقفه، أضف إلى ذلك اعتراضه على خسارته في الدورة الماضية من الانتخابات ودعوته مناصريه إلى احتلال البيت الأبيض، وهو ما يُفترض أن يُنقِص حظوظ أيّ كان بالفوز في أي نظام، تمكّن الرجل من تبوؤ المنصب الأقوى في الدولة الأقوى، الولايات المتحدة الأميركية، للمرّة الثانية! ومع تكاثر التحليلات عن إمكانية تحوّله بعد اكتسابه خبرة في الحكم وفي شؤون العالم، أبى إلا أن يُطمئننا إلى ثبات حاله بإصراره على هذياناتٍ يسعى إلى تحويلها واقعاً، كما فعل حين عبّر في مؤتمره الصحافي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، عن نيّته أخذ غزّة من الإسرائيليين كي تصبح خاضعة للولايات المتحدة، في إطار ما أسماها ملكية طويلة الأمد، بعد انتهاء الحرب وتهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن، الشيء الذي رفضه البلدان وندّدت به دول عربية ومنظمات إقليمية ودولية.
وعلى عكس الحكّام المجانين الذين اشتهروا بأحكامهم غير العادلة وتصرّفاتهم المؤذية، وحتى بدمويتهم بسبب أمراض عقلية ضربت أدمغتهم، ليس الجنون في حالة ترامب عضوياً أو مرضياً، بقدر ما هو تعبير عن اختلالٍ معمّم بات يطاول مجتمعاتٍ غربية بأكملها، لا يواجه فيها شخصٌ، مثل ترامب، استحالة بلوغه منصب الرئاسة الأولى في العالم، كما لا يجد نفسه مُجبراً على احترام أية مبادئ أخلاقية أو إنسانية، أو حتى عملية، حين يفكر تفكير تاجر عقاراتٍ يُريد أن يفرغ مجرّد مبنى من ساكنيه، ليحوله إلى مركز تجاري، سوى أن المبنى هنا وطنٌ يدعى فلسطين!
سبق للمستوطنين الأميركيين أن أفرغوا أميركا من الهنود الحمر، سكّانها الأصليين، بإبادتهم، واستطاعت الدعاية الخبيثة أن تصوّر هؤلاء همجاً أرادت الدولة الأميركية "تحضيرهم" وتطوير طرق عيشهم من خلال جمعهم في محميات. وترامب ولا ريب سليل هؤلاء، بل إنه ربما ذروة الألق التي بلغها الرجلُ الأبيض الذي يعتبر أن كل الأراضي متاحة كي يستوطنها ويستثمرها، كما فعل أجداده من قبله. والحال أننا لا نحتاج إلى طمأنة أنفسنا إلى أن مشروع ترامب لغزّة لن يبصر النور، من غير أن يمنعنا في الآن نفسه من إدراك كم يزداد الخطرُ ويقوى الحصارُ على أهل فلسطين، وكم بات حلُّ الدولتين نائياً وعصيّاً بوجود مجرم خطير كنتنياهو، يدعمه حليفٌ مختلّ هو الأقوى والأخطر على الإطلاق. نعم، يخال ترامب نفسَه كاوبوي راكباً على حصانه، متأمّلاً خريطة العالم من علٍ، وكأنها أرض خلاء تنتظر قدومه إليها لتنهض وتينع ناطحات سحاب ومراكز مال وتجمّعات تجارية. والأصح أن خطّة ترامب بشأن غزّة تذكّر ولا ريب بـمسرحية "الملك أوبو" ( ألفريد جاري، 1895) وقد نصّب نفسه ملكاً على العالم، واشتُقّت من اسمه صفة دارجة وشائعة (بالفرنسية ubuesque) تُطلَق على كل مشروع هزلي ومبالِغ حدّ العبث...