المغرب والجزائر ودبلوماسية الكوارث

المغرب والجزائر ودبلوماسية الكوارث

25 اغسطس 2021
+ الخط -

هل لك أن ترفض مياه عدوك لإخماد نيرانٍ تلتهم بيتك وتحرق أهلك؟ راج هذا السؤال في أوساط جزائرية ومغربية، جرّاء تجاهل السلطات الجزائرية عرض المغرب المساعدة في مكافحة الحرائق التي عصفت بغاباتها أخيرا. لكن الموضوع ليس على هذا القدر من البساطة، فإدارة الكوارث أمرٌ سياسيٌّ بامتياز، يُقسِّم الدول إلى حكوماتٍ مانحةٍ قويةٍ وأخرى متلقّية ضعيفة، وقد تساهم في تحسين وضع الدول أو تلطّخ سمعتها بالإخفاق. ونظرا إلى طبيعة العلاقة بين المغرب والجزائر اليوم وهما يقفان على حافّة سكين، كان رد فعل السلطات الجزائرية متوقَّعا، ولم يكن طرح السلطات المغربية المساعدة بريئا من الحسابات السياسية أيضا.

رفض قادة الجزائر مساعدة كان المواطنون في أمس الحاجة إليها ليس حدثا استثنائيا، إذ تفيد دراسة نُشرت السنة الماضية للباحثين، أليسون كارنغي وليندسي دولان، أن العالم قد سجّل 66 كارثة طبيعية في ما بين 2004 و2012، ورفضت الحكومات مساعدات خارجية في 32 حالة منها. وحسب مؤشّر الكفاءة في إدارة الكوارث الطبيعية الذي اعتمدته الدراسة، تنقسم الدول إلى ثلاثة أنواع: الدولة الكفؤ، تتمتع بمستوى عالٍ من الاكتفاء الذاتي في مجابهة الكوارث يجعلها ترفض المساعدات الخارجية، كما الولايات المتحدة والصين واليابان، والدولة غير الكفؤ، تقبل بأريحية المساعدات الخارجية مثل بنغلاديش وهايتي والفيليبين. وبين هاتين الفئتين، توجد دول متوسطة الدخل، مثل تايلاند والهند وتركيا، يحرص بعضها على التظاهر أحيانا بالكفاءة عبر رفض المساعدة الخارجية، سعيا وراء اكتساب سمعةٍ تساعدها على الارتقاء بمركزها الدولي.

أما محاولة المغرب وضع الخلاف مع الجزائر جانبا، ولو بشكلٍ مؤقت، لمدّ يد المساعدة، فتُعرف في العلوم السياسية بـ "دبلوماسية الكوارث" التي لا تهتم بالكوارث بقدر ما تدرس مدى تأثير المساعدة بين الدول المعادية على مسار الصراع، كما تتحرّى عن المكاسب أو الخسائر الناتجة عن قبول أطراف الصراع مساعدة أو رفضها. ويرى باحثون أن الكوارث قد توفر فرصة لتغلب البلدان على التوتّر السياسي في ما بينها، حتى إن كانت هذه الدول متحاربةً أو على شفا حرب، كما هو الشأن بالنسبة للمغرب والجزائر، بسبب النزاع الطويل حول "الصحراء الغربية"، وتنافسهما المحتدم للانفراد بدور الدولة المحورية في المنطقة المغاربية.

الكوارث قد توفر فرصة لتغلب البلدان على التوتّر السياسي في ما بينها، حتى إن كانت هذه الدول متحاربةً أو على شفا حرب

انطلقت حرائق الغابات في الجزائر في مطلع الشهر الماضي (يوليو/ تموز) في جبال الأوراس، وتلتها موجة جد واسعة وأشدّ عنفا فشلت في مجابهتها السلطات الجزائرية لسبب جوهري: عدم جاهزيتها وافتقادها الإمكانات المادية والبشرية المختصة في مكافحة حرائق الغابات، فما إن اشتدت الحرائق مخلّفة وراءها عشرات الضحايا، حتى اتضح للجميع أن الدولة التي تنفق على التسلح حوالي 10 مليارات دولار سنويا (حوالي 6% من الناتج المحلي الإجمالي) لا تتوفر على طائرة إطفاء برمائية واحدة.

وبينما كانت السلطات الجزائرية تنتظر مساعدة الدول الأوروبية، عرض المغرب طائرتين برمائيتين، بتعليمات من الملك محمد السادس، بعد أقل من أسبوعين من خطابٍ دعا فيه الجزائر إلى حل الخلافات العالقة وإعادة فتح الحدود بين البلدين؛ خطوة اعتبرها مراقبون محاولة لتبديد التوتر الذي أحدثه تصريح الممثل الدائم للمغرب لدى الأمم المتحدة، السفير عمر هلال، بدعم المغرب "استقلال شعب القبائل" الأمازيغي. وشكّل هذا الموقف تحولا مثيرا في دبلوماسية الرباط تجاه الجزائر، منذ احتضان الأخيرة الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (البوليساريو)، وتسليح مقاتليها وتمويل حربها ضد الرباط منذ 1975.

غداة تصريح المغرب بعرض مساعدته، تجاهل الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، هذه المبادرة، وألقى اللوم على الدول الأوروبية الصديقة، مُقرّا أنها لم تستجب لطلب بلاده بإرسال طائراتٍ لمواجهة الحرائق. لم يكن من المتوقّع أن تقبل السلطات الجزائرية مساعدة تنطوي على قدر غير يسير من الإحراج، فلو قبِلت أن تخمد طائرات المغرب النيران على أرض القبائل بالذات، الخط الأحمر الذي اتُّهمت المملكة بتخطّيه، لشكّل ذلك إهانةً مدوّيةً وهزيمةً سياسية للقادة الجزائريين.

سجّلت الرباط مكاسب إستراتيجية لظهورها بمظهر الدولة المانحة، والمتمتعة باكتفاء ذاتي في إدارة الكوارث

وعلى الرغم من عدم تقديمها المساعدة الإنسانية، سجّلت الرباط مكاسب إستراتيجية لظهورها بمظهر الدولة المانحة، والمتمتعة باكتفاء ذاتي في إدارة الكوارث، أبانت عنه عبر أدائها الإيجابي لمحاصرة الحرائق، جديدها التي شبّت في غابات بإقليم شفشاون الجبلي، وواجهتها فرق مختصة بطائرات "كنادير CL 415" الكندية الصنع، كان قد اقتنى المغرب خمسة منها بتكلفة 40.5 مليون دولار للطائرة الواحدة. في خضم إدارتها للكارثة، كشفت مندوبية المياه والغابات في المغرب عن استخدامها طائرات مسيّرة مجهزة بنظام تحكم متطوّر وكاميرات حرارية لرصد حرائق الغابات، وأعلنت السلطات المغربية عن اعتزامها تعزيز سربها بـثلاث طائرات برمائية إضافية من طراز CL 51. في بضعة أيام، سيطر المغرب على موجة حرائق واسعة، لم تخلف أي خسارة في الأرواح. إدارة هذه الكارثة جعلت ميزان القوة بين البلدين يميل لصالح المغرب. في المقابل، برزت الجزائر دولة متلقيّة، تعتمد على المساعدة الخارجية. وجاءت هذه الحادثة لتؤكّد المفارقة بين أداء البلدين في مواجهة جائحة كوفيد 19، بوصفها كارثة صحية، إذ كانت الجزائر أكثر تضرّرا من الوباء، نظرا إلى ضعف بنية مؤسساتها الصحية، كان قد صنفها تقرير مؤشّر الأمان الصحي العالمي للعام 2019 في المرتبة 173 من بين 195 دولة شملها تقييمه، إلى جانب دولٍ أنهكتها الحروب، مثل العراق وليبيا وسورية، بينما تبوأ المغرب المرتبة 68 عالميا.

ويرى خبراء "دبلوماسية الكوارث" أن تعاطي الدول مع الكوارث الطبيعية عادة ما يدفع علاقاتها الدبلوماسية في المنحى الذي كانت تسير عليه قبل حلول الكارثة وقلّما يغيره، إذ يزيد العلاقات الحسنة تحسّنا، ويعمّق الأزمات بين الدول المعادية. وثبُتت صحة هذه النظرية في العلاقات المغربية الجزائرية المضطربة بالأساس، فقبل أن تخمد ألسنة اللهب على الأرض، اتهمت السلطات الجزائرية حركة استقلال منطقة القبائل (الماك) بإشعال الحرائق، بدعم من المغرب، وزعمت أن "الأفعال العدائية المتكرّرة" من الأخير اضطرّتها لإعادة النظر في العلاقات بين البلدين. موقف غريب يطرح السؤال: إن كانت المؤسسة العسكرية الجزائرية حقا مقتنعة بوقوف انفصاليي "الماك" وراء هذه الكارثة، ألم يكن حريّا بها إعادة النظر في علاقاتها مع باريس التي تستقبل على أرضها حركةً تصنّفها الجزائر تنظيماً إرهابياً؟

يفضل النظام الجزائري سياسة الهروب إلى الأمام، ليحوّل كارثة طبيعية على الأرجح إلى خطرين سياسيين: خارجي مغربي، وداخلي

واضح أن النظام الجزائري يفضّل سياسة الهروب إلى الأمام، ليحوّل كارثة طبيعية على الأرجح إلى خطرين سياسيين: خارجي مغربي، وداخلي، بشقيه الانفصالي والإسلامي (حركة رشاد). أما عن دبلوماسية الكوارث التي نهجتها الرباط، فقد أحرجت الجزائر بما يكفي لإجبارها على برمجة شراء بضع طائرات إطفاء، استعدادا لمواجهة حرائق محتملة، فغابات العالم تحترق من شرقه إلى غابات الأمازون المطيرة التي تحولت إلى بؤرة جفاف قلّصت قدرتها على امتصاص الكربون، حتى روسيا الشديدة البرودة باتت أحد مسارح الحرائق المتكرّرة والمدمرة.

أما بلدان البحر الأبيض المتوسط، فقد كان لها النصيب الأوفر من حرائق اشتعلت، بالتزامن أو بالتتابع، في غابات تركيا واليونان وإيطاليا والجزائر وتونس والمغرب، ففي الوقت الذي كانت ألسنة اللهب تعصف بشمال الجزائر، اندلع أزيد من 500 حريق في جميع أنحاء اليونان، واجتاحت الحرائق عشرات المحافظات التركية، فحوّلت مائة ألف هكتار من الأراضي إلى رماد. لم توجّه حكومات هذه الدول أصابع الاتهام إلى خصومها السياسيين، لكن بعض مواطنيها روّجوا بكثافة نظريات المؤامرة، إذ اتّهم بعض الأتراك الانفصاليين الأكراد بإشعال الحرائق، واتهمت فئة من اليونانيين الأتراك، ووجدت المافيا الإيطالية نفسها في قفص الاتهام، بدل الاحتباس الحراري. بسخرية، علّقت الباحثة في أحوال المناخ في كاليفورنيا، غوكسي سينكان، على هذا الوضع: "هل نظموا جميعاً إضرام الحرائق في الأسبوع نفسه تقريباً؟".

لم يعد المجال يسمح بمزيد من التلاعب بحقيقة التغيّر المناخي، وتجاهل توقّعات خبراء المناخ الأمميين أن يصل ارتفاع درجة حرارة الأرض (الاحترار العالمي) إلى 1.5 درجة مئوية مقارنة بعصر ما قبل الثورة الصناعية في حدود عام 2030، وفقا لتقرير أصدرته الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) التابعة للأمم المتحدة في مطلع شهر أغسطس/ آب الجاري. لقد تبنّى ممثلو 195 بلدا عضوا في هذه الهيئة، بما فيها الجزائر والمغرب، هذا التقييم الشامل والمروّع الذي سيقدَّم إلى صنّاع القرار.

D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
عائشة البصري
كاتبة وإعلامية مغربية، ناطقة سابقة باسم بعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور وحائزة على جائزة رايدنهاور الأمريكية لكاشفي الحقيقة لسنة 2015.
عائشة البصري