المغرب والاحتقان الاجتماعي الحاد

المغرب والاحتقان الاجتماعي الحاد

23 فبراير 2022

مغاربة يتظاهرون أمام البرلمان في الرباط (20/2/2022/ فرانس برس)

+ الخط -

يشهد المغرب حالة احتقان اجتماعي حادّ، يمكن أن تنفجر في أيّ لحظة، بسبب الوضع الاقتصادي الصعب الذي أثّر على حياة شرائح واسعة من الشعب المغربي. وفيما كان ينتظر من الانتخابات التي شهدتها البلاد في سبتمبر/أيلول الماضي أن تحمل بارقة أمل، للحفاظ على حالة الاستقرار ومعدّلات النمو المتوسطة، يبدو أنّ الرياح لا تجري دائماً بما تشتهيه سفن السياسة والسياسيين. فبعد أقل من ستة أشهر على ذهاب حزب العدالة والتنمية الإسلامي، الذي خرج من الحكومة منهزماً، وبعد أقل من أربعة أشهر على تنصيب حكومة جديدة، لكنّها بلا نكهة سياسية حقيقية، تجد نفسها اليوم أمام وضع غير مستقرٍّ، تطبعه علامات الهشاشة وحالات الاضطراب المتكرّرة، تعبّر عنها الاحتجاجات التي لم تهدأ منذ تنصيب الحكومة الحالية. بدأت بالتظاهرات الصاخبة للتلاميذ ضد نظام المراقبة المستمرّة الذي أقرّته وزارة التربية الوطنية، قبل أن تتراجع عنه. وبعد فرض الحكومة إلزامية التلقيح ضد فيروس كورونا، وضرورة الإدلاء بالجواز الصحي للدخول إلى المرافق العمومية، خرجت تظاهرات عارمة شملت كلّ الفئات والقطاعات، ما دفع السلطات إلى غض النظر والتراخي المقصود في فرض قرارها بالقوة لتهدئة الشارع الغاضب، خصوصاً عندما تحوّلت شعارات المتظاهرين المناوئين للتطعيم إلى شعارات مناهضة لارتفاع الأسعار، وأصبحت الاحتجاجات تستقطب الفئات المتضرّرة من وضع اجتماعي قاس.

وشكّل حادث إنقاذ الطفل ريان، الذي سقط في بئر عميقة وتوفي داخلها، بارقة أمل رمزية لمغاربة كثيرين كانوا ينظرون إليه كحالة خلاص وإنقاذ جماعي لفئاتٍ ترى نفسها تسقط يوميا في بئر عميقة من الفقر والتهميش. ومن هنا، كان ذلك الالتفاف الجماعي الكبير، وغير المسبوق والرائع، في انتظار لحظة الإنقاذ التي لم تتحقق، بل وتحوّلت إلى خيبة أمل كبيرة، عمّقها فشل المنتخب المغربي في نهائيات كأس أمم أفريقيا، الذي مثّل انتكاسةً غير منتظرة لفئات شعبية مقهورة، زادُها الوحيد هو الأمل.

تحوّلت عملية إنقاذ الطفل ريان إلى خيبة أمل كبيرة، عمّقها فشل المنتخب المغربي في نهائيات كأس أمم أفريقيا، الذي مثّل انتكاسةً غير منتظرة لفئات شعبية مقهورة، زادُها الوحيد هو الأمل

وانتظرت أغلبية الشعب المغربي الصامتة والمصدومة، حتى حلت الذكرى الحادية عشرة لحراك "20 فبراير"، الذي يعدّ بمثابة النسخة المغربية من الربيع العربي، لتملأ الشوارع، نهاية الأسبوع الماضي، في أكثر من 50 مدينة وقرية مغربية، شهدت تظاهرات رفعت شعاراتٍ تندّد بارتفاع الأسعار وبالتضييق ضد الحقوق والحريات، واستقطبت شرائح واسعة من المجتمع، أغلبها غير منتمية لأحزاب سياسية، يجمعها تضرّرها مباشرة من غلاء الأسعار وحالة الجفاف القاسي الذي يشهده المغرب هذا العام.

وأمام هذا الوضع الصعب، تجد الحكومة الحالية نفسها حبيسة إكراهاتها الذاتية، حكومة هجينة من أحزاب بلا قواعد شعبية حقيقية، ووزراء أغلبهم تكنوقراط، أو وافدون على العمل السياسي من منطق الريع والبحث عن الاستفادة وتحقيق المصالح، ورئيس حكومة ضعيف، ويفتقد إلى المؤهلات التواصلية القادرة على جعل خطابه مقنعا. أسرف في الوعود المفرطة في التفاؤل خلال حملته الانتخابية، قبل أن يصطدم مع الواقع، ويصدر قانون مالية خالياً من كلّ الوعود الكاذبة التي حملها برنامجه الانتخابي. وفي المقابل، خفّض الضرائب على أرباح الشركات الكبيرة، ومنها شركات مملوكة له، وسَحب مشروع قانونٍ يُجرِّم الإثراء غير المشروع لموظفي الخدمة المدنية والمسؤولين والمنتخبين من البرلمان، وهو ما شكّل صدمةً لبسطاء كثيرين اعتقدوا، بسذاجة، أنّ الحكومة، خصوصاً رئيسها الذي باعهم الوهم، قادرة على إنقاذهم من عمق الجبّ الذي يوجدون فيه.

تآكل رصيد أغلب الأحزاب المغربية، نتيجة فقدان الناس الثقة في العمل السياسي، وفي الفاعلين السياسيين بصفة خاصة

تضاف إلى ذلك التركة الكارثية الثقيلة التي خلّفتها حكومة الإسلاميين، المتمثلة في ارتفاع عجز الميزانية إلى أكثر من خمسة مليارات دولار، وارتفاع نسبة الديْن العمومي إلى أكثر من 93% من الناتج المحلي الإجمالي، ونسبة بطالة ترتفع يومياً وتعدت 20% رسمياً، على الرغم من أنّها تتجاوز هذه النسبة بكثير على أرض الواقع. المغرب الذي ظل سنواتٍ يعدّ "حالة استثنائية" في المنطقة، وحافظ على نسبة نمو ضعيفة، لكنّها مستقرّة، وحقق إنجازات مبهرة، بالنظر إلى إمكاناته الاقتصادية الضعيفة، خصوصاً في مجال البنية التحتية، مثل الطرق والموانئ والطاقات المتجدّدة، وخلال جائحة كورونا قدّم صورة إيجابية على قدرته على إدارة الأزمة التي خرجت منها البلاد بأقل الأضرار. لكن، وراء هذه الصورة الجاذبة التي تُبهر من يَرقبها من الخارج خدوشٌ غائرةٌ، تم إهمالها عدة سنوات، كان يتم تهدئتها بالمراهم أو بقوة الضغط عليها لإخفائها بالغصْب وليس بالرتق والمُداواة.

خلف الصورة الرومانسية لـ "أجمل بلد في العالم"، كما يصفه أحد شعارات وزارة السياحة المغربية، يختفي وضع اجتماعي صعب تتسع رقعته يومياً، وداخله ازدادت التفاوتات الطبقية تباعدا بشكل مهول، خصوصاً خلال العقدين الأخيرين، بسبب ارتفاع معدّلات الفقر التي تزيد سنوياً، وتضاعفت خلال السنتين الأخيرتين عشرات المرّات جرّاء أزمة كورونا وتداعياتها التي ما زالت تتفاعل سلباً، مؤثرة على حياة ملايين الناس في البوادي والقرى وداخل أحزمة الفقر في المدن الكبرى. وطبقاً لأرقام رسمية، انكمش الاقتصاد بنسبة 7%، بسبب تأثير جائحة كورونا، وفقدت السياحة خلال عامين ما يناهز عشرة مليارات دولار، ما أثر على شرائح واسعة من المجتمع، ترتبط أنشطتها بهذا القطاع الحيوي الذي يعدّ أحد أهم مصادر العملة الصعبة في البلاد، إلى جانب تحويلات الجالية المغربية في الخارج وصادرات البلاد من الفوسفات، وصادراتها، في السنوات الأخيرة، من صناعة السيارات، وإنْ كانت أغلب أرباح هذه الصادرات تذهب إلى الشركات العالمية التي تنتج سياراتها في المغرب.

وضع اجتماعي صعب تتسع رقعته يومياً، وداخله ازدادت التفاوتات الطبقية تباعداً بشكل مهول

وعلى المستوى السياسي، تآكل رصيد أغلب الأحزاب المغربية، نتيجة فقدان الناس الثقة في العمل السياسي، وفي الفاعلين السياسيين بصفة خاصة، وأدّى السجل الاقتصادي الكارثي لحزب العدالة والتنمية الإسلامي، الذي قاد الحكومة ولايتين متتاليتين، إلى خيبة أمل كبيرة تجسّدت في التصويت العقابي ضده، والذي حوّله إلى رقم صغير داخل المعادلة السياسية المغربية المعقدة.

وأمام هذا الوضع المرتبك من كلّ ناحية، تظل الاضطرابات الاجتماعية في حالة كمون، استغلت السلطات فترة الوباء ذريعةً لتشديد ضبطها، من خلال منع الاحتجاجات والتضييق على الهوامش المتبقية من حرية التعبير، بالضرب بقوة على بعض الصحفيين المنتقدين وزجّهم في السجون، والمتابعات القضائية لنشطاء المواقع الاجتماعية المزعجين، ومحاصرة الهيئات المدنية المنفلتة عن حالة الضبط والمراقبة التي باتت تفرضها الأجهزة الأمنية على المجتمع الذي يُحكم اليوم بسلطة أجواء الخوف السائدة. وعلى الرغم من قوة الضبط والمراقبة، وداخل هذا المناخ المليء بخيبة الأمل، لا سيما في أوساط الطبقات المتوسطة والفقيرة، وبين صفوف جحافل الشباب العاطلين عن العمل، سيستمر السخط الاجتماعي في التنامي، والاضطرابات الاجتماعية آخذة في التصاعد، والحركة الاحتجاجية تكتسب يومياً زخماً بانضمام الفئات الأكثر تهميشاً وتفقيراً لصفوفها. وفي حالة عدم تحرّك الحكومة في الوقت المناسب، فإنّ خطر الخروج عن نطاق السيطرة يبقى قائماً، وفي كلّ لحظة، لأنّ الغضب الكامن في الأعماق سيظل يترصّد الحالة المواتية لكسر حاجز الخوف والتعبير عن نفسه في اللحظة المفاجئة.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).