المعارضة المصرية واحتراف إضاعة الفرص

المعارضة المصرية واحتراف إضاعة الفرص

06 مايو 2022

(تسنيم المشد)

+ الخط -

قرابة التسع سنوات مرّت على انقلاب الثالث من يوليو (2013) في مصر، ولا تزال المعارضة المصرية في شتاتها في الداخل والخارج، وفشلت كل محاولات تشكيل جبهة معارضة قبل أن تبدأ. ونجح النظام، بشكل قاطع، في تصنيف التيار السياسي الأكبر في البلاد باعتباره تنظيما إرهابيا، بل ونجح في فرض سرديته على قوى المعارضة المسمّاة المدنية تمييزا لها عن "المعارضة الدينية"، وبالتالي نجح النظام في فرض سردية المدني في مواجهة الديني، بدلا من السردية الأصلية في الحالات المشابهة للمدني في مواجهة العسكري الغاصب للسلطة والحرية، والمدمر للاقتصاد والاجتماع.

لم يكتف النظام بفعل هذا في الأوساط السياسية التنظيمية من أحزاب ونقابات ومؤسسات رسمية فقط، بل ذهب إلى محاولة فرض هذه السردية على الرأي العام، عبر الدراما والسينما والأدوات الثقافية الأخرى التي توجّه تماما ضد تيار الإخوان المسلمين، لكن شمّاعة "الإخوان" هذه قد تآكلت، وتآكلت معها فرضية الإرهاب إلى حد بعيد، فلم تعد مجديةً أمام التحدّيات الاقتصادية والاجتماعية الحقيقية التي أخرجت لنا أكواما من "الكوميكس" قادمة من أناس عاديين، وليس آخرها فرقة ظرفاء الغلابة الذين جرى حبسهم. فيما لا تزال التيارات السياسية تتبنّى السرديات نفسها عما حدث في يوليو/ تموز 2013، وعن بعضها بعضا. وفيما يحاول النظام، عبر تسريبات مسلسل "الاختيار3"، أن يوقع فتنة بين التيارات السياسية، فهي أصلا لا تفكر في أية محاولة لبناء جبهة حقيقية في مواجهة النظام، ومن يفكّرون بهذا يجابَهون بنافخي كير الكراهية السياسية التي كانت سببا رئيسيا للوضع البائس الذي يقيم فيه المصريون فيه منذ سنوات.

فشلت كل محاولات تشكيل جبهة معارضة قبل أن تبدأ

المشكلة الرئيسية للتيارات السياسية المصرية أنها تنسى ما كان بينها من تاريخ نضالي مشترك قاد إلى معظم التغييرات الرئيسية في المسار الاستبدادي العام للتاريخ المصري الممتد. وإذا اقتصرنا على فترة الدولة الحديثة، فإن عملية تنصيب محمد علي كانت بالتعاون بين التيارات السياسية المصرية المختلفة حد التناقض، لكنها كانت تتفق فقط في أن استمرار حكم المماليك هو الخطر الأكبر. كذلك كان الحال في يوليو/ تموز 1952، حيث كان الشارع يغلي من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وكان النظام ناجحا في التضييق على التيارات الدينية واليسارية، فيما اجتمع هؤلاء على عمل سرّي وعلني مذهل، قاد إلى التأسيس للجمهورية المصرية، بغض النظر عما جرى من انحراف من ديمقراطية محمد نجيب إلى الطبيعة العسكرية لهذا التأسيس، لكن تغيير النظام الملكي لم يكن ممكنا سوى بمثل هذا التحالف، ومن دون تنحية الكراهية السياسية جانبا والتعامل بواقعية شديدة من كل الأطراف لتحقيق حلم التغيير.

كان الشيء نفسه حادثا إبّان الحراك السياسي المكثف الذي صاحب انتفاضة الخبز في السبعينات، ثم انتفاضة الأمن المركزي في الثمانينات، وصولا إلى التنسيق القوي بين هذه القوى السياسية في المساحات السياسية التي أتيحت في نهاية الثمانينات وحتى الثورة المصرية في يناير / كانون الثاني 2011، والتي تخللها عديد من أكبر مظاهر التنسيق السياسي بين التيارات المختلفة، سواء في النقابات والحراكات العمالية القوية أو حركة كفاية أو حتى حراك أعضاء هيئة التدريس في الجامعات المعروف (حركة 8 مارس)، أو الجمعية الوطنية للتغيير، وكلها راكمت مكتسبات تأسيسية ما كان للثورة المصرية أن تحدث بدونها.

مرور قرابة العقد على الانقلاب العسكري بما أتاحته أخطاؤه وكوارث سياساته الاقتصادية والاجتماعية، كفيل بإنجاز جبهة للمعارضة

هذه الانتفاضات والتنسيقات، مع غيرها من أحداث، ساهمت في إنتاج نضال مشترك، ولو لم يكن مشتركا بالمعنى الحقيقي لكان سهلا على كل نظام سحقه والعبور منه من دون تكلفة اجتماعية كبيرة، ومن دون قدرة حقيقية للمجتمع على تغييره في النهاية، كما تنبئنا هذه التنسيقات السابقة على القدرة الحقيقية على تجاوز الكراهية السياسية والاستقطاب الحادّ لدى نخبٍ كانت قادرة على التفاهم بينها يوما ما ولو في الحدود الدنيا، وهو الملمح الأساسي الذي يغيب عن نخب استقطاب ما بعد "3 يوليو".

وبينما يدرك النظام نفسه خطورة مثل هذا التنسيق ويتحسّب له جيدا، فإن النخب نفسها تبدو غير راغبة وغير قادرة على اتخاذ مثل هذا القرار بالتنسيق بوعي ومسؤولية حقيقية عن الوضع الراهن، وهذا الأمر يجعل هذه النخب، في الداخل والخارج، مسؤولة بشكل رئيسي عن استمرار تردّي الأوضاع السياسية والحقوقية، كما الاقتصادية والاجتماعية، للمصريين، فحتى وإن لم تكن مسؤولة عن هذا التردّي بالأساس، فهي مسؤولة عن عدم وقفه، وعن استمراره بشكل أو بآخر.

قبل أيام، طرح المناضل التونسي، أحمد نجيب الشابي، المعارض لقيس سعيّد، على مختلف الأحزاب والشخصيات المناهضة لرئيس الدولة أن تؤجل خلافاتها وحساباتها، وأن تضع اليد في اليد من أجل الضغط على الرئيس، ودفعه نحو التراجع عن إجراءاته الاستثنائية ونحو استئناف المسار الديمقراطي. ومعروف أن ما بين الشابي وحركة النهضة مثل ما صنع الحداد، ومع ذلك، راجع الرجل موقفه، واعتبر أنّ "الخطر الداهم حالياً هو قيس سعيّد"، ورفض علناً شيطنة "النهضة"، ورأى في الحركة "أهم رقم يدافع عن الديمقراطية الانتخابية الآن".

وبينما تبدو المعارضة التونسية بهذه الدعوات وغيرها قريبةً من محاولات جدّية للوحدة ضد الديكتاتور قيس سعيّد، الذي تسببت استقطاباتها الحادّة في صعوده، لا تزال المعارضة في مصر قابعة في مرحلة اللطميات والتلاوم عن أخطاء المرحلة الانتقالية، أو حتى في معارك عديدة شديدة الهامشية وموجهة من النظام وإعلامه والدراما التابعة له من دون تطرّق حقيقي لأية محاولة جادّة لحلحلة الوضع البائس الحالي، حتى أن لكل طرف مظاهر احتفاء بخروج بعض معتقليه تكاد تكون فيها مكايدة للأطراف الأخرى، وأي طرح لأية أفكار أصبح يحتوي ضمنا وعلنا اتهاما للطرف الآخر بقدر اتهام السلطة أو محاولة للتبرؤ من أي تقاربٍ معه مهما كان موقفه.

 لا تزال التيارات السياسية تتبنّى السرديات نفسها عما حدث في يوليو 2013، وعن بعضها بعضاً

لم يستغرق الأمر من التونسيين أكثر من تسعة أشهر من تاريخ الإجراءات الاستثنائية لقيس سعيّد في يوليو/ تموز الماضي، قبل أن تتوصل قواهم ونخبهم الحية إلى تلك القناعة بأن لا سبيل لمواجهة الديكتاتورية، ووقف مخاطرها الاقتصادية والاجتماعية قبل الشعبوية والسياسية، سوى بعمل جبهوي تنسيقي.

قد يتطلب تجميع المعارضين لأي نظام ديكتاتوري ضمن جبهة واحدة وقتا طويلا، لكن مرور قرابة العقد على الانقلاب العسكري بما أتاحته أخطاؤه وكوارث سياساته الاقتصادية والاجتماعية كان كفيلا بإنجاز مثل هذه الجبهة، أو على الأقل توقف الأطراف السياسية عن شيطنة بعضها بعضا، والتوقف من أجل التفكير في كيفية الخلاص من ديكتاتوريةٍ كهذه.

مؤكد أن جزءاً من اللاعبين، بمرور الوقت، وفي ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة المتسببة فيها سياسات الأنظمة الديكتاتورية، يصبحون في لحظة حرجة ما أكثر إيماناً من أي وقت مضى بضرورة التعجيل بإعلان هذه الجبهة، وهو أمرٌ سيحصل بالتأكيد عندما تتشكل هيئة تنسيقية تجمع أطرافا فاعلة على الأرض، سواء من أهالي المعتقلين من كل التيارات المختلفة أو من السياسيين داخل السجون وخارجها، عندما يتخلون مؤقتا عن كبر المركزية الأيديولوجية والتنظيمية لتياراتهم، وعن هذه الاستقطابات الحادّة بشأن صحة قرارات الحكام والفرق المتنافسة وقواعد التحكيم قبل إيجاد أرضية الملعب ذاتها.

يبقى على هذه المعارضة أيضا أن تفكّر بجدّية في سؤال ماذا إن كانت أطروحات النظام الحالي بشأن الدعوة إلى الحوار جدّية، ولو بنسبة واحد بالمائة، وعليهم أن يقدّموا إجابة على سؤال افتراضي، سيطرحه النظام حتما، وهو مع من سيتحاور؟ قبل أن يجيب بحوار هشّ مع إعلامه وصحافته الرديفة على الطريقة الصهيونية في إدارة الحوارات أننا لم نجد من نتفاوض معه.