المعارضة السورية في طور الهبوط

المعارضة السورية في طور الهبوط

18 ديسمبر 2020
+ الخط -

من الصعب أن تجد اليوم بين السوريين من يثق بمؤسسات المعارضة التي تكاثرت واستقلت بعضها عن بعض، وباتت هياكل فارغة إلا من سند دولٍ تسندها، ولم يعد أمامها سوى التنازل وراء التنازل. ليس هذا وليد سنواتٍ من فساد مسؤولي هذه المؤسسات واستزلامهم واستئثارهم وتأدلجهم، بل أيضاً وليد شروط خارجة عن إرادتهم. ومشاريع المؤسسات البديلة التي يكثر الكلام عنها اليوم لن تكون أفضل. الفرق أن هذه، إذا تشكلت، ستنشأ على قبول ما يصعب على القديمة قبوله بسبب السقف العالي الذي سبق أن كسبت شعبيةً به، استجابة لنزوع "المزايدة" إرضاء الجمهور. المشهد اليوم هو سباق في التنازل. مشاريع مؤسّسات جديدة ستقوم على أرضٍ منخفضة، ومؤسسات قديمة تسعى إلى الهبوط إلى هذه الأرض المنخفضة. لوضع هذه الحال في شروط أشمل، لا بد من العودة إلى سياق الثورة السورية نفسه.

في غياب مرجعيةٍ تحظى بقدر كافٍ من الإجماع الثوري، ظهر داخل جسد الثورة السورية، منذ وقت مبكر، صراعٌ على حيازتها أو أبوّتها. ومعروفٌ أن هذا النوع من الصراع، أو التنافس الداخلي، يُعلي من منسوب التطرّف والمزايدة في الثورة، بوصفه سبيلاً إلى وضع اليد عليها، بالآلية نفسها التي يستخدمها المتطرّف الإسلامي، وينجح في إظهار أنه أكثر إسلامية من سواه، وفي وضع يده على الإسلام. 

الإنتاج الثوري افتقد تماماً "المستهلك" السياسي، أي تحويل الطاقة الثورية إلى قوة سياسية تجابه قوة النظام وتخترق تماسكه

أول من "امتلك" الثورة، في الواقع، امتلاكاً معنوياً، الشباب الذين كانوا شعلة الثورة ومحرّكها الأهم، وقد صبغوها، في فترتها الأولى، بألوان أحلامهم كما بألوان دمائهم. حظي الشباب، لمجرّد كونهم كذلك، وحتى لو لم يكونوا من الفاعلين في الثورة، بسلطةٍ في موضوع خطير، كموضوع الثورة والتغيير السياسي في بلدٍ بتعقيد سورية وتراكب مستوياتها. وقد شهدنا نشوء تنظيماتٍ عديدةٍ تحمل اسم الشباب، بغرض الاستثمار في هذا الرأسمال المعنوي، أو نزوعاً إلى الاستغناء عن الكهول (الشباب والكهول بعمومية)، الذين اقتصر دورهم، في الغالب، على الدهشة والمراقبة السعيدة مع بعض القلق من مظاهر خروج الثورة عن "الرسمة" الذهنية لها.

ساهمت نشوة الشباب و"سلطتهم" المعنوية الطارئة، إضافة إلى انبهار الكهول وانكماشهم النفسي أمام إقدام الشباب وبسالتهم، في ترك الثورة تتجه إلى مسار تلقائي، تبيّن لاحقاً إنه مسار منحدر يراكم عناصر تحطّمه. كانت الأطر التنظيمية المنهكة للمعارضة التقليدية أضعف (تقنياً وفكرياً) من أن تحتوي طاقة الثورة التي باتت كجيش عملاق بلا جنرالات ولا هيئة أركان، فقد فاضت في الشوارع والأحياء والقرى، وتعدّدت بؤرها ولم تجد من "يقونن" هذه الطاقة إلى قوة سياسية.

بين الفعل الثوري على الأرض والهدف الذي يبغيه، كانت توجد توسّطات عدة، لا ينتمي أي منها إلى الثورة

كان الفعل الثوري للشباب يتركّز على "إنتاج" الثورة، أي تنظيم المظاهرات وأشكال الاحتجاج الممكنة، و"توزيعها"، أي إيصال الصوت إلى الخارج عبر وسائل الإعلام والإنترنت، ويتضمن ذلك أيضاً كشف جرائم النظام بحق المحتجين وأوساطهم الاجتماعية. وإذا كان ما ينتجه الشباب السوريون قد وجد "المستهلك" الإعلامي، فإن هذا الإنتاج الثوري افتقد تماماً "المستهلك" السياسي، أي تحويل الطاقة الثورية إلى قوة سياسية تجابه قوة النظام وتخترق تماسكه. غني عن القول إن الجهة التي يمكنها أن تحوّل الطاقة الثورية إلى قوة سياسية يجب أن تحوز درجة معقولة من السيطرة على هذه الطاقة، وهو الأمر الذي غاب بشكل شبه تام عن الثورة السورية طوال تاريخها. لم تستطع هيئة التنسيق الوطني (يونيو/ حزيران 2011)، ولا المجلس الوطني (أكتوبر/ تشرين الأول 2011)، ولا الائتلاف الوطني من بعده (أكتوبر 2012)، أن تكون "مستهلكاً" سياسياً للثورة، ذلك أنها جميعاً لم تكن لها سيطرة على "إنتاج" الثورة. 

نرى حدّة هذه المشكلة أكثر، إذا وضعنا في البال الطابع القصووي لمطالب الثورة، أي إسقاط النظام. ومن ذلك أن جمعة "لا للحوار" كانت في 8 يوليو/ تموز 2011، أي قبل نشوء تكوين سياسي يدّعي تمثيل الثورة، ويمكنه الحوار أصلاً. يعكس هذا طفولة سياسية "شبابية" جاراها "الكهول" ولم يستفد منها سوى النظام الذي كان، في حقيقة الأمر وفي عمق المصلحة، الطرف الأكثر رفضاً للحوار، كما تبين لاحقاً. النظام الصلب لا يمتلك القدرة على تقديم تنازل ممكن في الحوار، خشية الانهيار. 

تحوّل شباب الثورة إلى لاجئين أو عسكريين يخدمون سلطاتٍ لا علاقة لها بالثورة

على هذه الحال، رأينا أن بين الفعل الثوري على الأرض والهدف الذي يبغيه، كانت توجد توسّطات عدة، لا ينتمي أي منها إلى الثورة. يمكن رسم دائرة الفعل الثوري المفترضة في سورية على الشكل التالي: نشاط ثوري، توزيع إعلامي (الإعلام خارجي وخاضع لاعتبارات غير سورية وغير ثورية)، ضغط دولي (خاضع لحسابات الدول واعتباراتها السياسية غير الثورية)، يفضي إلى سقوط النظام. العنصر السوري الوحيد في هذا المخطط هو "إنتاج" الثورة. هذا قريبٌ من النموذج الذي تحقق في مصر، وأكّدته مذكرات الرئيس الأميركي السابق، أوباما، التي صدرت أخيرا وبينت أن حسني مبارك استقال تحت ضغط أميركي. وكان للسيناريو المصري حضور في ذهن الثائرين السوريين، قبل أن يحل مكانه بالتدريج السيناريو الليبي الذي قاد إلى زيادة الشرخ بين القوى العسكرية على الأرض (باتت الفاعل الأول في التغيير)، والمؤسسة السياسية التي تنطحت للتعبير عن الثورة.

أفضى تفكّك سلسلة الثورة السورية، أو عدم تكاملها، إلى هدر طاقتها، وإلى تسرّب هذه الطاقة إلى طواحين قوى غير سورية. مع الوقت، وضعف المردود السياسي، تحوّل شباب الثورة إلى لاجئين أو عسكريين يخدمون سلطاتٍ لا علاقة لها بالثورة. أي توقف "إنتاج" الثورة، وسيطر الكهول على مؤسسات المعارضة التي تبنّت خطاباً عالياً تحت تأثير الشباب، وباتت سياساتهم اليوم تقوم على معالجة الهوة الفاصلة بين أرض كلامهم وأرض واقعهم، في حركةٍ معاكسةٍ لتصعيد المطالب الشبابية في مطلع الثورة. وقد واجهت مؤسسات المعارضة القديمة غالباً صعوبة في النزول من على غصنها العالي، لأن قيمتها، حين كان لها شيء من القيمة، جاءت أصلاً بسبب هذا العلو. الواقع الذي يعطي اليوم فرصةً لبروز مؤسّسات معارضة جديدة تستمد قيمتها هذه المرّة من "انخفاض" غصنها.

F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.