المسلسلات يكتبها الغالب

المسلسلات يكتبها الغالب

23 ابريل 2022
+ الخط -

يبدو أن "البطحة" لا تزال تؤرّق رؤوس الساسة المصريين، على قاعدة "اللّي على راسه بطحة بحسّس عليها"، بدليل دخول هؤلاء الساسة عالم الفن من باب الجزء الثالث من مسلسل "الاختيار"، الذي يحاولون فيه سرد روايتهم عن الملابسات والأحداث التي أوصلت الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى سدة الحكم؛ فيظهر الرئيس وكأنه "المنقذ" الذي انتشل مصر من براثن "الشر"، المتمثل بجماعة الإخوان المسلمين الذين حصدوا عبر صناديق الاقتراع، سنة 2012، منصب الرئاسة، وأكثرية في مقاعد مجلس الشعب، في الانتخابات التي تلت نجاح ثورة يناير 2011 .

وبعيدًا عن الدخول في التفاصيل التي تسلّل إليها ألف شيطان، وصاحبت فترة رئاسة المطاح محمود مرسي القصيرة، نحاول محاكمة المسلسل من وجهة نظر تاريخية، بصرف النظر عن المحتوى المنحاز إلى رواية واحدة، مغفلًا الرواية الأخرى التي كتبها "المهزومون"، فلم يشاهدها أحد.

ولئن كان المكتوب يُقرأ من عنوانه، يبدأ الإخفاق من عنوان المسلسل نفسه "الاختيار"، بوصفه لا يمثل الحقيقة أبدًا عندما أراد أن يوحي أن عودة العسكر إلى سدّة الحكم جاءت من باب "الاختيار"، علمًا أن ثورة الربيع المصرية قامت أصلًا ضدّ هذا الحكم الذي تفرّد بالسلطة، منذ ثورة الضباط الأحرار في خمسينيات القرن الماضي ضد الملكية، فغاب عنه التمثيل الشعبي الحقيقي، بدءًا من عهد الرئيس جمال عبد الناصر، مرورًا بخلفه أنور السادات، وانتهاء بحسني مبارك. وإذا كان الشعب بارك تلك الثورة الجماهيرية في مطلعها، بوصفها جاءت لتحرير مصر من النفوذ البريطاني، وسحرته كاريزما عبد الناصر، والذي كان له ما له وعليه ما عليه، غير أن أشدّ سلبياته تمثلت بعدم تعزيز النهج الديمقراطي في مؤسّسات الدولة، بل كان الحكم بوليسيًّا أمنيًّا، قامعًا سائر أشكال الرأي الآخر، وبتعيين نائبٍ أطاح كل المبادئ التي نهضت عليها ثورة الضباط الأحرار، وأعني به أنور السادات، الذي زار إسرائيل ووقّع معها المعاهدة المشؤومة. ولم يكن لهذا أن يحدث لو كانت الدولة بُنيت على الحرية والديمقراطية. ثم أكمل سلسلة التفريط حسني مبارك الذي أعقب السادات.

ضد هذه العسكرة الاستبدادية اندلعت ثورة ميدان التحرير في يناير/ كانون الثاني 2011، التي لم يكن قادة الجيش المستأثرون بالسلطة راضين عنها بالتأكيد، لأنها ستجرّدهم من صلاحياتهم السياسية التي تمتعوا بها نحو قرن إلا ربعًا، لكنهم آثروا الانحناء مع العاصفة، متحيّنين فرصة الانقضاض، لا على الرئيس الجديد الذي جاء من خارج الثكنة، بل على النهج الديمقراطي كله، الذي سعت إلى إرسائه ثورة الغلابى.

تلك هي رواية "المهزوم" التي أغفلها "الإجبار"، وهو يسرد روايته "الرومانسية" عن جنرالات ناعمين يستقلون السيارات الفارهة، ويتوجّهون إلى القصر الجمهوري؛ للإصغاء إلى توجيهات السيد الرئيس مرسي. أما "الاختيار" فلم يتحدّث عنما يربو على 1500 ضحية مصرية من المعتصمين في ميادين رابعة العدوية والنهضة وغيرهما، وعن المجازر التي اقتُرفت بحق متظاهرين سلميين، ووصفتها منظمة هيومن رايتس ووتش بأنها "أكبر عملية قتل حدثت بحق متظاهرين في العالم العربي". ولم يقل "الاختيار" إن الرئيس مرسي لم يتلق تقريرًا صادقًا واحدًا من أجهزة المخابرات المصرية، طوال فترة رئاسته، إمعانًا في التضليل والتزييف وتعتيم الرؤية أمامه. ولم يقرّ "الاختيار" بأن الرئيس المطاح مرسي اقتيد من قصر الحكم إلى الزنازين المعتمة في طرفة عين، ولم يخضع لأي محاكمةٍ عادلة، ولم يحظ بأية رعاية طبية، هو أو غيره من عناصر الحكم السابق، فمات قهرًا في السجن، ولم يُسمح بإقامة جنازة محترمة له تقديرًا، على الأقل، لمنصبه رئيسا، بل دفن على خوف وعجل.

على أن أهم ما لم تسرُده رواية "الغالب"، في مسلسل "الاختيار"، أن الانقلاب لم يكن مقصودًا به جماعة الإخوان المسلمين بعينها، أو محمد مرسي بمنصبه، بل كان السيناريو نفسه سيتكرّر فيما لو نجح رئيس آخر من المرشّحين الذين خاضوا انتخابات الرئاسة إلى جانب مرسي، على غرار أحمد شفيق وحمدين صباحي، وكذلك الأمر ضد أيّ تيار يحوز الأغلبية في مجلس الشعب.

كان الانقلاب يستهدف الحرية نفسها، وصناديق الاقتراع كلها، والنهج الذي حاولت أن تؤسّس له ثورة الربيع المصرية، فهل سيعترف "الغالب" الذي لم يغلب سوى شعبه وأحلامه بهذه الرواية في الجزء الرابع من مسلسل "الإجبار"؟

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.