المساعدات سلاح حرب... إعادة إنتاج جيش لحد في غزّة

29 مايو 2025

فلسطينيون يحملون طرودا غذائية غرب رفح جنوبي قطاع غزّة (27/5/2025 فرانس برس)

+ الخط -

منذ اندلاع حرب 7 أكتوبر (2023)، يعيش قطاع غزّة واحدةً من أعقد المراحل وأقساها في تاريخه، في فترة تشهد ندرة الموارد وارتهانها لجيش الاحتلال، الذي أحكم قبضته على منافذ غزّة، وبات السكّان عاجزين عن توفير ما يُبقيهم في قيد الحياة، في ظلّ اشتداد القصف وملاحقة الموت كلّ تحرّكاتهم وسكناتهم. وإلى جانب هذه المأساة الإنسانية، هناك معركة أخرى في الأرض لا تقلّ أهميةً، لكنّها أقلّ ظهوراً للعامّة؛ هي معركة السيطرة على الموارد وهندسة توزيعها وتهيئة الأرض لزرع جيش محلّي يدير الشؤون المدنية لقطاع غزّة بدعم الاحتلال الإسرائيلي.

تحاول إسرائيل نسج مشروع قديم بثوب جديد، مشروع الوكيل المحلّي، أو "العميل المستتر"، الذي يرتدي قناع الإغاثة، لكنّه في العمق أداة للتحكّم بالوعي الجمعي وتعظيمه قوةً يُسعى منها إلى تفكيك إرادة المقاومة مادّياً ومعنوياً. الجديد في هذه الأمر أن المخطّط يأتي بالتزامن مع خطّة أطلقتها إدارة ترامب لتوزيع المساعدات الإنسانية في غزّة عبر شركة أميركية خاصّة تُدعى GHF، تتولّى إدارة التوزيع داخل مواقع محصّنة تخدّم نحو مليونَي نازح من خلال أربع مناطق توزيع، تُدار من خارج المؤسّسات الأممية، في محاولة لتجاوز وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، ودور المؤسّسات الدولية ومؤسّسات المجتمع المدني، وكذلك الوزارات والأجسام الأمنية في غزّة. وقد قوبلت الخطّة بانتقادات واسعة، باعتبارها أداةَ ابتزازٍ سياسي.

لا شيء في السياسة الإسرائيلية يُترَك للمصادفة، فخطّة المساعدات الأميركية، التي بدأ تطبيقها، وبعد تسليم الجندي الأميركي عيدان ألكسندر، لم تكن وليدة ضغوط إنسانية أو أخلاقية، بل جزءا من ترتيبات أميركية إسرائيلية ضمن عملية "مركبات جدعون". وبذلك، تصبح المساعدات أداةً سياسيةً لإعادة إنتاج السيطرة، لا مساراً لتخفيف المعاناة. تستخدم إسرائيل ورقة الغذاء والدواء لا لإغاثة الضحايا، بل لترويضهم، ولإعادة تشكيل البيئة الديمغرافية والسياسية في القطاع بما يتماشى مع أهدافها الأمنية والاستراتيجية، ومحاولة لتجريب واقع جديد من خلال مساعدات مشروطة ومغموسة بإذلال المواطنين، إذ يصبح من يتحكّم في شاحنة الطحين أقوى من حامل البندقية، ومن يملك قائمة المستفيدين أشدَّ تأثيراً من صاحب الشرعية النضالية. وإنتاج مسرحية لتأمين المساعدات من "جهاز مكافحة الإرهاب" برز في السطح فجأة بقيادة أحد قطّاع الطرق، ممّن يحملون تاريخاً أسودَ في قطاع غزّة، في محاولة لتضخيم دورهم وفرضهم رُعاةَ أمن على أهل غزّة. تأتي هذه الخطّة في ظلّ أزمة إنسانية متفاقمة، إذ تُستخدم المساعدات أداة ضغط سياسي وأمني. إذ تفيد بيانات لمنظّمات إغاثية بأن 83% من المساعدات الغذائية المطلوبة لا تصل إلى غزّة، ما أدّى إلى تقليص الوجبات اليومية للسكّان إلى وجبة واحدة كلّ يومَين، مع حاجة 93% من سكّان قطاع غزّة إلى العلاج من سوء التغذية، كما أشار تقرير لمنظمة أوكسفام إلى أن 2% فقط من الغذاء المعتاد دخل غزّة منذ 7 أكتوبر (2023). وأفادت دراسة للمرصد الأورومتوسطي بأن 71% من سكّان غزّة يعانون الجوع الشديد، بما يمكن اعتباره انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، إذ يُعدّ استخدام التجويع وسيلةَ حربٍ جريمةَ حرب بموجب المادة 8 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

خطّة المساعدات الأميركية لم تكن وليدة ضغوط إنسانية أو أخلاقية، بل جزءا من ترتيبات أميركية إسرائيلية ضمن عملية "مركبات جدعون"

يجد المراقب لمشهد غزّة نفسه أمام مشهد تكرّر بشكل صارخ في ثمانينيّات القرن الماضي، حين صنعت إسرائيل في جنوب لبنان جيشاً وهميّ السلطات بقيادة عساكر محلّيين، كان أبرزهم سعد حدّاد ثمّ أنطوان لحد، شكّلا "جيش لبنان الجنوبي"، الذي كان أداةً وظيفيةً للاحتلال، يتقاضى أفراده الرواتب من تلّ أبيب، نُشِر في الجنوب اللبناني في محاولة لضبط الحدود، وتفكيك أيّ حالة صمود للسكّان والمقاومة في جنوب لبنان. ... اليوم، يعاد سيناريو شبيه بالجيش المحلّي البديل، ولكن في قطاع غزّة، عبر أدوات جديدة واستنفاخ جهاز جديد، بلا هيكلة وبلا امتداد أخلاقي، "جهاز مكافحة الإرهاب"، بقيادة شخص يسمّى ياسر أبو شباب. ليست هذه المحاولة وليدة اللحظة، بل سبقتها محاولات عديدة كانت أكثر وضوحاً خلال حرب "طوفان الأقصى"، فقد كشفت تقارير خاصّة لقاءات سرّية في القاهرة جمعت قادةً للجيش مع قياداتٍ من السلطة الفلسطينية موجّهة من رئيس المخابرات العامة ماجد فرج، هدفت إلى تخطيط تنفيذ عملية إدخال عناصر من السلطة الفلسطينية إلى غزّة في صورة قواتٍ أمنيةٍ تتسلّل ليلاً إلى القطاع من بين خيام النازحين لتنفيذ مهام استخبارية وعسكرية، على أمل إلحاقها بفرقةٍ ثانيةٍ وأخرى ثالثةٍ، ويُستلّ سيف الانقلاب على إرادة المقاومة بعد إدخال أكبر قدر من هذه القوات وإعادة السيطرة العسكرية والأمنية على القطاع، لكن سرعان ما كُشفتْ هُويَّاتهم وأُجلوا بالقوة. من المحاولات الأخرى، دعم بعض العشائر والعائلات، ذات النفوذ الاجتماعي والتجاري في غزّة، وسرعان ما احتواها وعي مخاتير العوائل أولاً، ثمّ تنبّه الناس وتصدّي المقاومة، ما أجبر الاحتلال على تعديل استراتيجيته.

أمّا المحاولة الراهنة فقد تكون أكثر خطراً، إذ تشكّلت بفعل الحرب حالاتٌ فرديةٌ للصوص خارجين عن إطار القانون والأخلاق، فاستغلّ جيش الاحتلال هذه الحالة، وشكّل لها غطاءَ حمايةٍ جوّيا، ليمكّنهم من نهب أكبر قدر من الممتلكات والمخازن والمساعدات الإنسانية، بل امتدّت إلى سرقة بعض العتاد في العُقد القتالية للمقاومة أحياناً. تلاقت هذه الحالة مع الخطّة الأميركية لتوزيع المساعدات الإنسانية في غزّة، إذ شُكّل فجأةً جهاز مكافحة الإرهاب وصدّر ياسر أبو شباب، الذي يحمل سجلّاً إجرامياً معروفاً في غزّة، إذ ظهر أخيراً في صورة، لابساً خوذةً للاحتلال ودرعاً للسلطة الفلسطينية. وأبو شباب، من قبيلة الترابين في جنوب غزّة، التي يمتدّ نفوذها إلى جنوب سيناء، وتشير عدة مصادر إلى ارتباطه السابق بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ويعمل تحت حماية الجيش الإسرائيلي في جنوب قطاع غزّة تحت اسم "جهاز مكافحة الإرهاب" بادعاء حماية المساعدات. برز اسمه وجهاً جديداً يحاول الاحتلال دعمه وتسويقه محلّياً. لكن ياسر ليس شخصاً جديداً في الساحة؛ هو معروف قاطعَ طريق كان مطلوباً للعدالة قبل الحرب على غزّة، ويحمل تاريخاً من الفساد في الذاكرة الجمعية لسكّان غزّة، خاصّة لإسهامه في تجويعهم بسرقة ما يخصّص لهم من مساعدات في فترة الحرب، الأمر الذي يجعل من مسألة تلميع صورته أو أي "Rebranding" له، وكذا تسويقه ملاكاً حارساً للمساعدات وإيصالها إلى الناس، محاولةً غير ناجحة، فالناس مهما بلغ الجوع بهم لن تتغيّر في أذهانهم بهذه السهولة صورة شبّان المقاومة بتأثير صورة قاطع طريق.

تجري محاولة تقويض شرعية المقاومة بنُخب بديلة، وإنشاء سلطة مرتزقة لا تختلف عن "جيش لبنان الجنوبي"

ليس المقصود من هذا المشروع مجرّد إدخال الطعام، بل تفكيك صورة المقاومة في وعي الناس، ومقايضة الناس بإرادة القتال، فكَي تنجو بأمعائك يجب أن تقتل إرادة المقاومة والقتال في داخلك، وإن لم تصدّق ذلك، فإليك الدلائل في الأرض، إذ سيوهمون الناس بأن المقاوم يظهر معرقلاً للإغاثة، وأن يظهر المتعاون منقذاً للأرواح. إنها عملية إعادة صياغة الرمزيّات داخل المجتمع، بحيث تستبدل صورة البطل بصورة "المنقذ الإنساني"، وتُجرَّد المقاومة من بعدها الأخلاقي أمام مجتمع أنهكه الحرب والدمار. وهنا، تبرز خطورة المشروع؛ إنه لا يستهدف البنية العسكرية للمقاومة بشكل مباشر، بل يحاول تقويض شرعيتها من أسفل، عبر إعادة تدوير نُخب بديلة، وهياكل خدماتية جديدة، وتكريس واقع استهلاكي تنشأ فيه "سلطةً مرتزقةً" لا تختلف كثيرا عن "جيش لبنان الجنوبي"، الذي ظنّ أنه جيش محميّ بالاحتلال؛ لكنّه تفكَّكَ أمام إرادة المقاومة الشعبية واستنزاف الاحتلال وأذرعه، فانسحب الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، وترك جيش الجنوب اللبناني (جيش لَحْد) مكشوفاً قبالة الشعب ومقاومته. ربّما يدرك الاحتلال بأن الشعوب التي أرهقتها الحرب قد تتنازل مؤقّتاً أمام الجوع، لكنّها تحاول هذه المرّة أن تُؤسّس لهذا التنازل بنية تحتية كاملة: شخصيات محلّية ذات تاريخ ملطّخ بالسلاح، تعمل في الأرض تحت غطاء "العمل المدني"، وتقدّم نفسها جسراً وحيداً بين السكّان وقوت نجاتهم، رغم أنهم مُسيّجون بتاريخٍ قذرٍ من الإفساد في حقّ الناس.

سيلتهم الوعي الجمعي حاجة الجوع، ولا يمكن بناء قيادة على رماد الجوع. فمخطّط برنامج المساعدات الأميركي، مهما بلغ، بأدواته، مثل ياسر أبو شباب، ومن في شاكلته، لن ينجح في غزّة، فغزّة رغم كلّ آلامها تبقى ذاكرةَ نضال مركّبة، تكشف الوجوه المتوارية خلف الأقنعة. وبالتالي، لن يمرّ أيّ مخطّط لتطويع السكّان أو ترويضهم، حتى لو كان برغيف الخبز الذي يتوقعونه منذ شهور، طالما أن هذه الخطط تنفّذ خارج الإرادة الجمعية لأهل غزّة ومقاومتهم.