المسؤولون عن نفخ التطرّف... فرنسا نموذجاً

المسؤولون عن نفخ التطرّف... فرنسا نموذجاً

27 ابريل 2022
+ الخط -

أقصر الطرق إلى فهم ظاهرة تمدُّد اليمين المتطرّف والشعبوية في العالم، ردّه إلى "الظروف الموضوعية" التي تعود إلى انفجار الهويات في العقود الثلاثة الماضية. هو أقصر الطرق لكنه ليس الوحيد الذي يوصل إلى توزيع عادل للمسؤوليات عن هاتين الظاهرتين. وإن كان بريكست (2016) يصلح لأن يكون منعطفاً معاصراً لتوثيق صعود الشعبوية واليمين المتطرّف بدرجاته المتعددة التي تعرف ذروتها مع الفاشيين الجدد، وقد ساهم في تبلور الظاهرة الترامبية وتفرعاتها مع بولسونارو البرازيلي ومودي الهندي، فإنه وجب التنبه إلى أن كل فاشية شعبوية بشكل عام، بينما ليست كل شعبوية فاشية، وذلك درءاً للمبالغة في الخلط بين المفهومين واستسهال استخدام المصطلحين، وما يجره ذلك من تخفيف من وطأتهما وخطرهما.

مناسبة الحديث تجاوُز شعبية رمز اليمين المتطرّف في فرنسا مارين لوبان عتبة الأربعين في المائة من أصوات الناخبين قبل أيام. حدث يدخل في سياق عالمي لصعود التطرّف من جهة، مع أن له خاصية فرنسية ذاتية لا تخطئها عين. في السياق الأول، لا يمكن فصل ازدياد شعبية فاشيي آل لوبان من 0.75 في المائة من الأصوات لجان ماري في انتخابات 1974 إلى 42 في المائة لمارين في 2022، أي في غضون 48 عاماً فقط، عن الظاهرة العالمية للمد المتطرف. لكن الملمح المحلي لهذه القفزة يصعب أن ينافسه عامل آخر. ولتقدُّم اليمين المتطرف والشعبويين هذا العام، من خلال المرشحين الثلاثة لهذين التيارين (مارين لوبان وإريك زيمور ونيكولا دوبون - إنيان) علاقة عضوية بضمور حزبَي الاعتدال الكلاسيكي للسياسة الفرنسية: اليمين الديغولي بالمسميات العديدة لأحزابه (اسمهم اليوم الجمهوريون) واليسار الاشتراكي. تياران أعطيا فرنسا ــ الجمهورية الخامسة حصانة ما ضد الارتماء في أحد الحضنين الأميركي أو السوفييتي، ووفرا لها نموذجاً من دولة الرعاية في المعيشة، والليبرالية في السياسة والاجتماع والرأسمالية غير المتفلتة في توحشها. تداول الحزبان الكلاسيكيان الحكم طيلة سنوات الجمهورية الخامسة حتى وصل الشاب إيمانويل ماكرون إلى الرئاسة في 2017، وعلى لسانه برنامج انتخابي وحيد بتنويعات عديدة: القضاء على اليمين الديغولي واليسار الاشتراكي. اختراع تيار جديد لا هو وسط ولا يمين ولا يسار. شيء صار يسمى "الماكرونية"، يقوم على نظرية قديمة في السياسة الأميركية اسمها "الأحزاب التي تلتقط أي شيء" catch all party مع الاستعانة برموز مخضرمة تنتمي إلى معسكرات اليمين واليسار والوسط، ووجوه أخرى شابة غالباً ما تكون آتية من العالم نفسه الذي خرّج ماكرون: كوكب الأعمال والمصارف والأثرياء. فرنسا القديمة برأي ماكرون انتهت، مثلما أن دونالد رامسفيلد سبق له أن نعى أوروبا العجوز وفرنسا في القلب منها. ولأن السياسة تلفظ الفراغ، تمكن الشاب من ملء جزء واسع من الخريطة بعد خلوها من الديغوليين والاشتراكيين. لكن "الجمهورية إلى الأمام" كان باهتاً وعاجزاً عن الاستحواذ على كل شيء، والطبقة الوسطى وتلك التي تميل إلى الجزء المترف من هذه الطبقة، والبيئة الليبرالية التي يأتي منها ماكرون وصحبه، كلهم لم يسمحوا للرجل ولحزبه ببلورة خطاب ينافس الفاشيين تطرفاً، ولا أن يغازل اليسار الراديكالي من ورثة الشيوعيين في حزب جان لوك ميلانشون. هكذا، أدى قتل اليسار واليمين المعتدلَين بسبب أخطاء قيادتيهما أولاً، وعلى يد الماكرونية ثانياً، إلى تغذية ميل شعبي وازن لتجريب التطرف والراديكالية: الأول يميناً والثانية يساراً.

لحسن الحظ أن التاريخ لا يسير في خط بياني مستقيم دوماً، حتى ولو شُبه لنا ذلك. نادبو اليسار واليمين، والسياسة عموماً، كثر في فرنسا، ومتوقعو وصول الفاشيين إلى الحكم في انتخابات 2027 أكثر منهم. لكن هؤلاء ينسون أن الخط البياني المستقيم والاستناد إلى الإحصائيات لوحدها، ينتميان إلى عالم الرياضيات لا السياسة والمجتمع، وأن الأمزجة الشعبية في المجتمعات الحرة والديمقراطية لا تعترف بالحتميات التاريخية. اليمين المتطرف والشعبوية ليسا قدراً لا مفر منه.

أرنست خوري
أرنست خوري
أرنست خوري
مدير تحرير صحيفة "العربي الجديد".
أرنست خوري