المزاج الانقلابي الثوري
استذكر عراقيون عديدون مطلع الأسبوع الجاري الذكرى الثانية والستّين لانقلاب 8 شباط (1963) بكثير من الأسى، وهو الانقلاب الذي أطاح نظام عبد الكريم قاسم، وجاء بالقوميين والبعثيين إلى السلطة.
يعدّد هؤلاء الحزانى على رحيل نظام عبد الكريم قاسم حسناته وسيئات انقلابيي الـ1963. ولكنهم يتجاهلون أن الانقلاب الثاني جاء على وفق الشرعية الثورية التي برّرت الانقلاب الأول (1958)، والتي جاءت بتحالف من الضبّاط، وفي مقدمتهم الزعيم عبد الكريم قاسم. وإن شئنا الدقّة، بدأت كرة الثلج بالتدحرج من لحظة قبول الملك غازي مجريات انقلاب الفريق أول بكر صدقي في 29 نوفمبر/ تشرين الأول 1936، حيث تحرّك بقوّاته العسكرية من الفرقة الثانية في كركوك إلى بغداد، واطاح حكومة رئيس الوزراء ياسين الهاشمي، وعيّن في محلّه حكمت سليمان. ليسجّل بذلك سابقة تاريخية فيكون صاحب أول أنقلاب عسكري ناجح في العالم العربي، وتحوّل بكر صدقي فعلياً الى زعيم العراق من دون منازع، ما يقارب السنة حتى اغتياله في الموصل في العام التالي.
قبول القصر الملكي بفرض إرادة العسكريين على النظام السياسي هو ما فتح الباب لطموحات العسكر في مراحل لاحقة. ليأتي انقلاب 1 نيسان (1941) بقيادة رشيد عالي الكيلاني، الذي رغم أنه لم يكن عسكرياً إلا أنه نفّذ الانقلاب بتحالف مع مجموعة من الضبّاط. وظلّت كرة الانقلابات تتدحرج حتى توقفت عند صدّام حسين حين تولّى السلطة في 16 يوليو/ تموز 1979، الذي أنهى عملياً عدّة محاولات للانقلاب عليه، ثم بنى نظاماً حديدياً يمنع حتى الحلم بفكرة الانقلاب.
لم تكن هذه الانقلابات كلّها من الناحية القانونية والدستورية شرعية، ولكنها بالمنطق الثوري تكتسب شرعية مختلفة، لأنها تحاكي المزاج الثوري في الشارع العراقي. إن هناك فئات هلّلت وهتفت لانقلاب عبد الكريم قاسم، ومثل ذلك حصل مع انقلاب 8 شباط 1963، الذي حظي بمباركة ضمنية من مؤسسات دينية، كانت ترى في تغوّل الشيوعيين زمن قاسم خطراً يهدّد الثقافة الدينية المحافظة، وسلطة رجال الدين.
خرج الانقلابيون، في واقع الحال، من المجتمع نفسه، المشبّع بالأفكار الثورية، والتي تريد القطع مع الماضي والالتحاق بركب الدول المتقدمة بضربة واحدة. وما زال هذا التفكير الانقلابي حيّاً ونابضاً في المجتمع العراقي. وهناك فئات كثيرة من المجتمع العراقي كانت تتمنّى خلال العشرين سنة الماضية أن يظهر ضابط عسكري "شجاع" ليطيح النظام السياسي، ويضع ساسته الفاسدين خلف القضبان، بل ولا بأس بإلغاء الانتخابات والبرلمان والحكم بيد من حديد. وأنموذج صدّام حسين الذي يبطش بالخصوم جذّاب ومغرٍ عند كثيرين، ليس من السياسيين فحسب، وانما داخل المجتمع نفسه.
في الأيام الأولى لتظاهرات أكتوبر/ تشرين الأول 2019 كان عراقيون كثيرون ينادون على الجنرال عبد الوهاب الساعدي، القائد في جهاز مكافحة الارهاب، كي ينفذ انقلابه ضد هذه الطبقة الفاسدة. ولكن سرعان ما تبيّن أن هذه الأدوار صارت مستحيلة في عراق اليوم، كما أن الرجل لم يكن يخطّط لمشروع من هذا النوع، وليس مناسباً له بالمرّة. ومن ضحالة وعي السلطة وضيق أفقها أنها حاربت الرجل وأحالته على التقاعد، خوفاً منه، فساهمت في تأجيج الشارع العراقي أكثر وأكثر.
كل الأحداث العنيفة في التاريخ العراقي المعاصر شرعية، إذا استندنا الى مزاج الشارع، فهو مزاج ثوري عصبي، يضيق بالانتظار ويريد ضربات ساحقة ماحقة. ولكن كل هذه الضربات الساحقة الماحقة كانت تؤدي الى نتائج عكسية، فهي تؤبّد ضيق الأفق، ولا تطوّر الوعي الاجتماعي والسياسي، وتعزّز القناعة الزائفة عند المجتمع بأن الحلول يمكن أن تكون بضربات عصا سحرية من يد زعيم أو قائد.