المحكمة الجنائية الدولية الفاضحة

27 نوفمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

يعيد طلب المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان إصدار مذكّرتي اعتقال بحق بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت شيئاً من العقلانية إلى هذا الجنون الكوني، وبعضاً من التوازن لكسر هذا الخلل الرهيب المتمثل في الانحياز إلى إسرائيل بوصفها دولة استثناء يحقّ لها ما لا يحقّ لغيرها أخلاقياً وقانونياً وسياسياً. لكن بقدر ما يعيد الطلب إلى عالمنا شيئاً من العقلانية والثقة بعدالة دولية، هي نسبية ككل شيء في هذه الدنيا، فإنه يضعنا في مكاشفة مع نفاقٍ تاريخُنا معجون فيه، تاريخنا السياسي الرسمي المتمثل بحكامنا والشعبي الذي يجسّده طيف كبير جداً من مواطني المشرق والمغرب العربيَّين. حكام ومواطنون قصتهم عريقة مع المحكمة الجنائية الدولية التي تتهافت عليها برقيات التهنئة والإشادة وقصائد التعظيم والتفخيم منذ يوم الاثنين ما قبل الماضي، تاريخ صدور طلب خان إلى هيئة المحكمة.

تعود القصة إلى الرابع من مارس/ آذار 2009 حين أصدرت المحكمة مذكّرة اعتقال الرئيس السوداني آنذاك عمر البشير بتُهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية راح ضحيتها 200 ألف مواطن ومواطنة وتهجير مليونين. وحرب دارفور (2003) يسجلها التاريخ كإحدى أكثر إبادات العصر الحديث دمويةً وأكثرها تهميشاً إعلامياً وأخلاقياً وسياسياً في البلدان العربية، ذلك أن ضحاياها الرئيسيين من جماعات الفور والزغاوة والمساليت ليسوا عرباً، بينما الجناة من وحوش الجنجويد والجيش السوداني ومليشيات موالية لهما، عرب، بالتالي، احتراماً لقاعدة "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، أمكن التغاضي عن تهم القتل العمد والإبادة والنقل القسري للسكان والتعذيب والاغتصاب وارتكاب جرائم حرب والنهب الموجهة للبشير ووزير دفاعه حينذاك عبد الرحيم محمد حسين، ووالي شمال كردفان السابق أحمد هارون، واعتبارها تفصيلاً في التاريخ. في النهاية، الإبادة إن لم ترتكبها إسرائيل وأميركا، لا تستحق اسمها، وإن كانت محلية الصنع، تبقى حقاً سيادياً وشأناً داخلياً، وأي محاولة لوقفها ليست سوى استعمار جديد.

إجماع الحكام العرب على إدانة طلب اعتقال البشير ومجرميه تُرجم في بيان قمة جامعة الدول العربية (31 مارس/ آذار 2009) في الدوحة. قمتا الاتحاد الأفريقي ومنظمّة التعاون الإسلامي استعارتا من البيان العربي عبارات التنديد والاستنكار، وكذا اقتبست معظم البلدان العربية ببيانات منفصلة أو باستقبالها البشير علامة على احتقار كل ما يمكن أن يرسي محاسبة مجرمين بوزنه إن كانوا من ناسنا وديننا ورَبعنا. يكفي للتدليل على مأساتنا أن تكون دولتان عربيتان فقط موقّعتين على نظام روما (المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية) الذي نبجّله هذه الأيام، وهما تونس والأردن فضلاً عن فلسطين، ويكفي أن إحداهما، أي الأردن (العضو منذ 2002)، استقبلت البشير في القمّة العربية عام 2017، وهي من بين البلدان المتحمّسة بالطبع حالياً لتنفيذ طلب اعتقال نتنياهو وغالانت.

والحال أنّ ازدواجية المعايير الدولية وتسييس العدالة والكيل بمكيالين، وجميعها نُبَحّ ونحن نستنكرها ونهجوها كما لم يهجُ المتنبي كافور، في كل مرة ننطق بمصطلحات المجتمع الدولي والغرب في سياق حديث عن إسرائيل، إنما نحن متخصصون فيها ومحترفو ممارستها. المحزن أن حملة شتم المحكمة الجنائية الدولية ومدعيها العام أيام المجرم عمر البشير، الأرجنتيني لويس مورينو ــ أوكامبو، لم تقتصر على حكام العرب، إنما كانت التظاهرات الشعبية حاشدة جداً في شوارع المدن العربية ضد "الإمبريالية المتجددة" و"التدخل الغربي بالشؤون العربية" و"الاعتداء على السيادة" وحرصاً على حصانة الرؤساء، بتنظيم أطراف البؤس العربي الثلاثة: الإسلاميون والقوميون واليساريون.

يصعب إيجاد مصطلح غير النفاق لوصف علاقتنا بالعدالة والمؤسّسات الدولية، وطالما ظلّ الحال كذلك، سيكون مستحيلاً أن نعطي لأنفسنا وزناً قبل أن نطلب من العالم أن ينصفنا وأن يتعاطى معنا بجدية واحترام.