المجتمع المدني مهدداً بالقانون في تونس

المجتمع المدني مهدداً بالقانون في تونس

07 فبراير 2022

(نجا المهداوي)

+ الخط -

كانت العشرية المنصرمة من عمر الانتقال الديمقراطي المنتكس حالياً في تونس ربيع المجتمع المدني، ففيها تنامت الجمعيات إلى أن وصلت إلى نحو 30 ألف جمعية تنشط بحرية كاملة في مختلف المجالات، من تعزيز قيم حقوق الإنسان إلى الإسعاف والإغاثة. لم تبلغ تونس المعدلات الدولية، أي ما يقدّر بجمعية لكلّ مائتي ساكن، إذ تظل في حدود جميعة لكلّ 500 ساكن. مع ذلك، يمتاز هذا المجتمع المدني بالتعدّد والتنوع، وبكثير من الالتزام المواطني. ربما كان المجتمع المدني هذا الذي نشأ في هذه العشرية أو استعاد حريته خلالها هو من حمى المسار الانتقالي، وحال دون السقوط في الاحتراب الأهلي. ولذلك كافأ المجتمع الدولي بمنح الرباعي الراعي للحوار جائزة نوبل للسلام (2015). استطاع الاتحاد العام التونسي للشغل وعمادة المحامين والرابطة التونسية لحقوق الإنسان واتحاد الصناعة والتجارة أن يجمعوا الفرقاء حول طاولة الحوار والذهاب إلى انتخابات تشريعية ورئاسية، خصوصا وقد شهدت البلاد موجة من الأحداث الإرهابية والاغتيالات التي كادت تعصف بالسلم الأهلي.

تجري الانتخابات بين فصائل سياسية، ويعدّ الفوز بها غنيمة حقوقية يتم تجييرها سياسياً وبشكل فاضح

لم يسلم هذا النسيج الجمعياتي الخصب والمتعدّد من داء الاستقطاب الحاد بين مخيمين، يسار وإسلاميين. وعوض أن يلعب دور الوسيط الذي يخلق جسور التواصل وتوسيع دائرة المشترك المواطني، تخندقت عديد من هذه المنظمات والجمعيات، بما فيها العريقة، وراء هذا الطرف أو ذاك، مستغلةً المنعطفات الحادّة التي مرّت بها البلاد لتأليب الرأي العام الوطني والدولي على من تعدّهم خصومها، وهم خصوم سياسيون بالدرجة الأولى، حتى المنظمات الحقوقية والإنسانية لم تسلم من هذا الانحراف الخطير. غدا بعض منها أذرعاً أيديولوجية وحزبية سافرة، تخوض أرقى أشكال النضال من أجل قضية ما، وتصمت في قضايا أخرى قد تكون أكثر خطورة وانتهاكا لحقوق الإنسان. والتبرير الوحيد الذي يظل قائماً عادة أنّ الضحية في هذا المجال إسلامي النزعة، أو غيرها من الصور النمطية التي يروّجها هؤلاء. رأينا كيف أنّ منظمة حقوقية عريقة لم تنشر أيّ موقف، حينما أزهقت روح مواطن تونسي في التظاهرات المناهضة لسلطة قيس سعيّد بمناسبة إحياء ذكرى الثورة التي ألغاها الرئيس. 
أمثلة عديدة مما لا يتسع المجال لذكرها تقيم دليلاً على تشوه المجتمع المدني في تونس، وتحوله إلى عبء أحياناً على انتقال ديمقراطي يُفترض أن يعزّز قيم المواطنة، بقطع النظر عن معتقدات أصحابها. منذ السبعينيات، كانت حروب التموقع داخل هذا الطيف من الجمعيات على أشدّه بين فرقاء اليسار ذاتهم، أما الإسلاميون فأعداء يجب منعهم من مجرد العضوية. تجري الانتخابات بين فصائل سياسية، ويعدّ الفوز بها غنيمة حقوقية يتم تجييرها سياسياً وبشكل فاضح. تشكو الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، وهي أعرق رابطة في العالم العربي وأفريقيا، منذ أكثر من سنتين تقريباً، من هذا الداء. استقال بعضهم من هيئتها القيادية، وما زال آخرون يعرقلون نشاطها نتيجة تلك المعارك الضارية بين رفاق اليسار وحدهم.

على الرغم من كل النقائص، ظلت الجمعيات المدنية والعلمية والتنموية جزءاً من مشهدٍ حيٍّ

بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي، سنة 2011، سارعت الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والانتقال الديمقراطي والإصلاح السياسي إلى سنّ مرسوم جديد للهيئات، ألغت بموجبه قانون 92 الذي كبّل إنشاء الجمعيات، وتحكم فيها من خلال احتكار وزارة الداخلية مبدأ الترخيص والرقابة السافرة على أنشطتها. وانتقلنا، مع المرسوم الجديد، إلى مبدأ الإعلام فحسب وإلغاء الرقابة الإدارية وحصرها في القضاء وحده الدي يعاقب الجمعيات أو يحلها، إذا ثبت اختراقها القانون. لذا نشطت الجمعيات بشكل غير مسبوق، وكانت لها مواقف عدائية مما حصل. وعلى الرغم من كل النقائص، ظلت الجمعيات المدنية والعلمية والتنموية جزءاً من مشهدٍ حيٍّ، يتدرّب فيه المواطنون على تدبير شأنهم ويراقبون النخب السياسية والدولة معاً، من خلال تلك الجمعيات بالذات.  
منذ إجراءات 25 جويلية (يوليو/ تموز 2021) الاستثنائية التي أعلن عنها الرئيس سعيّد بدأ التحرش بالجمعيات. في مناسبات عديدة عبر الرئيس شخصياً، علاوة على أنصاره، إذ عبر عن تبرّمه من الجمعيات، وكال لها جبالاً من الاتهامات: الفساد، التمويل الخارجي... إلخ. وهو ينتظر مثل هذه التجاوزات النادرة حتى يعبر عن موقفٍ كهذا، فهو لا يؤمن بالأجسام الوسيطة مطلقاً، ويراها حاجزاً يحول دون إرادة الشعب وتجسيد الديمقراطية المباشرة. لقد تعهد، منذ حملته الانتخابية، بتغيير قانون الأحزاب والجمعيات... إلخ. وها هو يمر مباشرة وبالسرعة القصوى إلى إنجاز ذلك. تسرّبت، قبل أيام، إلى الإعلام أخيراً نسخة من مشروعه هذا الذي يعيدنا، حسب جمعيات مهمة عديدة، إلى مربع البداية، أي قانون 1992، الذي سنّه الرئيس الراحل بن علي .. ستشهد الأيام المقبلة تعبئة مهمة من أجل الحيلولة دون إصدار هذا القانون الذي لو مرّ لكان انتكاسة أخرى تُضاف إلى مسار انتقالي يختنق.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.