المثقف المغربي بين الارتباط والاستقلالية

20 ابريل 2025

(مروان قصاب باشي)

+ الخط -

لا يمكن أن يُحمّل المثقّف أكثر مما قد يحتمله كل فاعلٍ يكون على حظٍّ من المعرفة والوعي في العلاقة بواقعه وظروفه ومجمل التطورات المحيطة به قرباً وبعداً. ومن المفهوم أن المثقفين هم فئة من المجتمع، غير متجانسة، ومتحوّلة بتحوّل الأوضاع والتصوّرات التي تصيب الأفهام وترتبط بالمصالح الفردية والشخصية. أما الصفة "التعبوية"، الآتية من نظام إيديولوجي معين، التي التصقت بوجودهم الفئوي هذا حتى أصبحت من خصوصياتهم في العصور المتأخّرة في فورة المقاومات الوطنية والشعبية، فقد ألصِقَت بهم في ارتباطٍ بمعرفتهم الثقافية والفكرية العامة، خصوصاً وقد كانت هذه المعرفة من رتب الوجود الاجتماعي الخاضع للتمايزات الاقتصادية وغير الاقتصادية، بالإضافة إلى درجة وعيهم المكتَسب بمختلف القضايا الجارية أو المفكّر فيها، ناهيك عن اللغة المستعملة في التخاطب اليومي، وفي تصريف المعرفة التي تُعْطى للدور المفترض الذي يقومون به في التعليم أو في الإدارة أو في الفضاء السلطاني أو في علاقة بأطر العمل السياسي الحديثة ... إلخ، وجاهة لم تكن لغيرها من أشكال ووسائط التواصل والتعبير الأخرى.

ولقد تكرّست الصفة التعبوية من الناحية التاريخية، وبخاصة في المجتمعات المتأخرة، بشتى أشكال التكريس الديني والأخلاقي، والحظوة المرتبطة بالشرافة، أو العائلة التجارية... إلخ، فضلا عن أنها ثقافية في محيطٍ كانت تغلب عليه أشكال وصيغ وحالات مختلفة من الأميّات (السياسية والثقافية والفنية وسواها)، ولكنها جاءت أيضاً من وعيهم، بحكم تلك المعرفة، في علاقةٍ بثلاثة مستويات: هي الواقع، لأنهم اهتموا بقضاياه وشؤونه، والصراع، لأنهم نصّبوا أنفسهم في حالاتٍ كثيرةٍ أصوات الهيئات والأطر السياسية والمدنية التي انتموا إليها أو كانوا في أجوائها، والسلطة، لأنهم أدركوا أن التأثير العام في تحوّل المجتمعات والذهنيات يأتي من التحكم في الأجهزة، أو البنيات التي يقوم عليها ذلك، والسلطة بالمعنى العام إحداها.

مُرادي أن أقول إن الدور الذي يمكن أن يُنسَب إلى المثقف ليس قدرياً ولا تلقائياً، فأحقّيته مدركة ومكتسبة، والارتقاء إليه لا يكون إلا بوعيه به دوراً يتقمّصه في علاقةٍ بالنسيج الاجتماعي الذي يرتبط به، أو بالإطار السياسي، أو المدني، الذي قد ينتمي إليه، أو بغيرهما عندما يقرّر مع نفسه، أو بتأثير من العقائد المتعدّدة والقيم المختلفة، أن الارتباطَ من المهامّ التي عليه أن يقوم بها تنفيذاً أو إشهاراً أو دعوة لها وإليها.

على المثقف أن يكون على إدراك لواقع التطور الموضوعي، وعلى وعي بأهمية الصراع في التغيير وإحداث التقدم

بيد أن ما لا ننتبه إليه، في الغالب، أنَّ الارتباط المشار إليه لا يكون، عندما يتشكّل في الوعي، إلا متصوّراً ووهمياً أيضا، لأنه، من ناحية، في تعارضٍ مع مفهوم الاستقلالية الشخصية التي تتحدّد بمعرفته وتكوينه الثقافي، وهي فردية بالأساس (لا جماعية)، كما أنه يصبح، وهو لا يملك لذلك ردّاً، في قلب الانتماء الذي يتحدّد، في غالب الأحيان، في علاقةٍ بحركة الصراع السياسي، أو بالانتماء الإيديولوجي، أو بالمجتمع ككلية شاملة، وفيها مفهوم الوطن كياناً وتاريخاً وشعباً وثقافةً وعقيدةً... إلخ، وهذا، في الواقع، هو الذي يعطيه قدراً من الأحقّية، أو مركزاً، أو وجاهة ما، لبناء مواقفه وتصوّراته وآرائه وتفعيل دوره بما له من محمولاتٍ تُمَكِّنُه من الأهلية المطلوبة للقيام بما يقوم به. ومن المفهوم أن هذا الوضع ليس إلا حالة، لعلها مؤقّتة، وقد تستمر أزماناً، ولكنها تتعرّض في مختلف مراحل التطور المجتمعي، وغير المجتمعي، إلى تأثيراتٍ معيّنةٍ تلقي عليها ظلالاً من التغيير، أو الانحراف، أو التجاوز، كثيرة ومتعدّدة، بل ويمكن القول إن مفهوم الارتباط، في حد ذاته، يصبح عَالَةً على المرتبط عندما تضيع منه البوصلة التي ترسم الوِجْهة لعمله، أو الهدف لقصده، وما ذلك إلا لأنَّ ما يمكن تسميتها "سردية التحول" الفكري، أو الشخصي، تغدو على يد المثقف، ولا علاقة لذلك بالتعبير الشعبوي الجاري على اللسان عن الانتهازية، أو الوصولية، أو الخيانة، أو ما شابه، إلى مبرّرٍ لتزكية ماهية مختلفة يرتبط بها على الدرجة نفسها التي كانت له في الارتباط الذي فارقه (كم من مثقفٍ كان يمينياً فأصبح يسارياً، وكم من شيوعيٍّ أصبح إسلاموياً).

ويمكن القول إن استقلاليّة المثقف لا تتحقّق له إلا في علاقةٍ بالفكر، ولا تظهر إلا من خلال إنتاجه الفكري العام. ثم إنَّ الاستقلالية ليست دلالةً على الموقف المبدئي المبني على تصوّر ديموقراطي لمختلف الأوضاع التي يرتبط بها المثقف، أو يريد الفعل فيها، لأنها ليست مجرّدة، بل هي فقط من العناصر التي تُكَوِّنُ الموقف، أي إلى جانب الإيجاب أو السلب (حتى لا أقول اليمين أو اليسار)، فكم من مثقفٍ إيجابيٍّ وقع في محظور مساندة المواقف المعادية للتقدّم وللحرية، وكم من مثقف سلبي كان نصيرا للحرية وللتقدم، بل وغالبية المثقفين اليمينين، وخصوصاً على صعيد الفكر الأوروبي، يعتبرون أنفسَهم خلفاء للأنواريين الذين أشاعوا أفكار التقدّم والمساواة والعقد الاجتماعي... إلخ، ثم إنهم يتصرّفون على هدي الليبرالية المتزنة التي تأخذ بأوسط الأمور في التصرّف والمعاملات، وفي تقدير الأوضاع التي يعيشها الإنسان بصورة إيجابية. ومعروفٌ أن العمل بدور من الأدوار التي قد يلعبها المثقّف من باب الانحياز لقضيةٍ من القضايا، أو بالوقوف إلى جانبها، أو معارضتها، لا يكون إلا من خلال المعرفة... لا من خلال شيءٍ آخر. ومن الصحيح أن مثقفين لعبوا أدواراً مهمّة في تاريخ المغرب الحديث، سواء بالمعنى التحديثي التنويري، أو بالمعنى النضالي الصرف. ولكن ذلك كان، في شروطه وظروفه، على ارتباطٍ مؤكّدٍ بالانتماء، أو بالولاء، أو بالاندراج، ضمن الحركة الاجتماعية أو السياسية ذات الأهداف النضالية (أو التربوية) على صعيد المجتمع، لا من خارجها.

غياب دور المثقف تعبير آخر عن استقلاليته التي هي دعامة الموقف الواعي المبني على معرفة حقيقية بما يمكن تسميتها "الضرورة" على صعيد المجتمع

وعليه، غياب دور المثقف، في تقديري، تعبيرٌ آخر عن استقلاليّته التي هي دعامة الموقف الواعي المبني على معرفة حقيقية (واقعية كذلك) بما يمكن تسميتها "الضرورة" على صعيد المجتمع... من غير أن تكون مُحَتَّمة. ويمكن القول إن هذه الضرورة ليست وقفاً على النضال، فمثقفون كثيرون لم يُعرف لهم نضال مباشر، ولكنهم ساهموا في تغيير منظومة التفكير بصورةٍ أقوى من وسائل التغيير المباشرة. ولا يمكن أن تكون تلك الضرورة أيضاً وقفاً على الانتماء حصراً، لأن مثقّفين كثيرين منتمين لعبوا أدواراً غير إيجابية في تاريخ تطور بلدانهم وشعوبهم، فالمقصود، بالضرورة، أن يكون المثقّف على إدراك لواقع التطوّر الموضوعي، وعلى وعي بأهمية الصراع في التغيير وإحداث التقدّم، وعلى استعداد أيضاً لكي يُحَوِّل ذلك كله (أي الإدراك والوعي) إلى صوتٍ خاصٍّ له مقوّماته التعبيرية في المواجهة... سواء أكانت هذه المواجهة ضد السلطة المستبدة أو الديموقراطية، أو ضد المجتمع أيضاً بما فيه من إيديولوجيات وذهنياتٍ دينية وغير دينية.

ولو كان لي أن أحلّل مثالاً على ذلك لذكرتُ عبد الله العروي الذي انتقل، في بداية حياته الثقافية، من الارتباط الشخصي والحزبي تقريباً بالمهدي بن بركة، وبالاتحاد الوطني للقوات الشعبية حزباً ناطقاً بالآمال الشعبية المنصهرة في بوتقة الفكر النضالي الإصلاحي المعارض، وانتهي بأنْ وضَع لنفسه، بالابتعاد عن مراكز التأثير والجذب، إطاراً صار يُعْرَف به، وربما ساهمت كتاباته المتأخّرة شيئاً ما في بناء أجزاءَ مَا مِنْ ذلك الإطار، وفي علاقةٍ معه بنوعٍ من الاستقلالية التي بوّأته مكانة خاصة أصبح يتميّز بها مرجعاً في الفكر والتاريخ وغيرهما. إلا أن عبد الله العروي مَرَّ أيضاً بمرحلة وسيطة استفادت منها السلطة من دون أن يكون مثقّفاً سلطانياً. فقد سبق له أن ترشّح في الانتخابات النيابية (1977) في أفقر حي شعبي في الدار البيضاء، وراج عن فشله أنَّ أجهزة وزارة الداخلية هي التي أطاحته. ولكنه، مع ذلك، لعب دوريْنِ هاميْن في التوجّه السياسي العام للدولة المغربية: في علاقة بقضية الصحراء، إذ انبرى، مؤرّخاً، في الكتابة عن الموضوع، لا من زاوية الدفاع عن الأطروحة المغربية فقط (مغربية الصحراء)، بل، وبصورة خاصة، لمقارعة الخصوم الجزائريين باعتبارهم أصحاب مخطّط توسّعي يريدون به محاصرة المغرب وتحجيم دوره منافساً إقليميّاً تُخْشَى شَوْكَتُه. وقد ارتبط بهذا الدور أنْ كَلَّفَهُ الملك الحسن الثاني بِمُهِمَّة النزول على الأوساط الفرنسية اليسارية في محاولة لثنيها عن تبنّي الموقف الجزائري المساند أطروحة "تقرير المصير". أما الدور الثاني فقد مارسه كتابةً أيضاً من خلال التوسّع في شرح مفهوم مخزني عتيق: "البَيْعَة" التي مَحَضَها المغاربة للسلاطين العلويين، المتقدّمين منهم والمتأخّرين على السواء، قصد نصرة الدين وحماية الاستقلال، فأصبحت في أعناقهم شروطاً ولو أنها غير ملزمة.